هذا العالم الذي نعيش فيه يضج فيه شعوب وقبائل تتحدث بمئات اللغات واللهجات، وكل أمة تجعل من لغتها محور الفخر والاعتزاز والهوية التي تميزها، ولا غرو في ذلك فاللغة هي مخزن التراث والثقافة والأدب وهي سجل التاريخ الاجتماعي والفكري، وعلى كثرة لغات العالم إلا أن عددا محدودا منها لا يزيد على (10) يقال عنها لغات عالمية منها اللغة العربية، وعالمية لغتنا العربية هي أمر ورثناه ولم نحدثه، فهي لغة الإسلام ولغة القرآن، وهي لغة تختزن ثراء هائلا من المعاني والكلمات، يقول عنها الدكتور (عدنان عيدان) أحد علماء حوسبة اللغة العربية «إن اللغة العربية التي نستخدمها اليوم على سعتها لا تستخدم سوى ما يقارب (9000) جذر في حين أن إمكاناتها تصل إلى (21000) جذر، لذا فاللغة العربية قادرة على الاتساع وتوليد المعاني والكلمات بما يفوق ما تحتويه الآن أضعافا مضاعفة»، وللغة العربية قدرة على توليد المعاني والكلمات باستيرادها من لغات وثقافات أخرى فتهضمها لتتسق مع النطق والتصريف العربي، فعلى سبيل المثال عندما ظهرت شبكة التواصل الاجتماعي (تويتر) استوعبتها العربية وبات الجذر (توت) يعني كتب في تويتر وتصريفها (توت، يتوت، متوت فهو تويته)، ولكن ومع قابلية اللغة العربية على التوسع والتنوع، فهناك إشكالية تكمن في ضعف قدرة من يريد أن يخدم اللغة العربية خدمة تليق بها.
اللغة العربية هي من أولى اللغات التي دونت كلماتها وعرفت معانيها بالقواميس، فقواميس العرب القديمة ماثلة تشهد على الجهد والبذل في خدمة اللغة، ولكن في الوقت الحاضر لم نرَ جهدا يذكر يليق باللغة العربية، فقواميس اللغة هي جهود فردية تظهر كالمذنبات كل ردح من الزمن، وحتى مجمعات اللغة العربية المشهورة لم تقدم ما يليق باللغة العربية، فحتى اليوم لا يوجد قاموس عربي يحدث باستمرار شبيه بالقواميس الأجنبية مثل (وبستر) مثلاً أو (أكسفورد).
كل الجهود التي نسمعها هي وعود أو مشروعات تعثرت وماتت. كذلك لا نرى جهودا تذكر لخدمة استخدام اللغة العربية فمعظم الشركات العربية الكبيرة قررت أن تتبنى اللغة الإنجليزية كلغة رسمية، فقط حتى يسهل على الموظفين الأجانب العمل بها، فأرامكو، وسابك, وطيران الإمارات وإعمار ونفط الكويت ومعظم البنوك الخليجية، تعتمد اللغة الإنجليزية في خطاباتها الداخلية، في حين أن شركات إسرائيل أجبرت شركة (SAP) الألمانية المنتجة لبرامج إدارة المعلومات المشهورة على وضع برنامج إدارة الأعمال المشهور باللغة العبرية منذ أكثر من (15) سنة، وهذا البرنامج هو البرنامج المحوري في أعمال شركة أرامكو، وكذلك سابك ومجموع الرخص لهذا البرنامج في منطقة الخليج فقط، تعادل أضعاف الرخص في إسرائيل، ومع ذلك لا يزال هذا البرنامج غير معرب، والسبب أن العملاء العرب يريدونه بالإنجليزي، كذلك مايكروسوفت لم تقدم نسخة عربية لبرنامجها (الأوفس) على أجهزة (أبل) حتى الآن، مع أنها طبقت ذلك في لغات أخرى كالتايلاندية منذ (10) سنوات.
معضلة اللغة العربية لم تكن يوما بقدرتها، ولكن هي بضعف الرغبة في دعمها، رحم الله حافظ إبراهيم، كان يصف هذه الحال منذ (80) سنة، فاليوم أصبحت معظم الجامعات العربية تدرس العلوم بالإنجليزي ومعظم برامج التلفزيون بالإنجليزي ومعظم محتويات المكتبات بالإنجليزي، حتى أصبح الحديث باللغة الإنجليزية هو مصدر للزهو والافتخار ودليل الثقافة والمعرفة بين شباب العرب.
ليس هناك تغريب للمجتمع أكثر من سلبه الفخر في لغته الأصلية وجعله عالة على لغة أخرى، وليس هناك تغريب أكثر من أضعاف منتوجه الفني والحضاري في مقابل استيراد أفلام وقصص ومسلسلات تحمل في مضمونها ثقافة أخرى، اليوم العرب بحاجة إلى إعادة بناء شخصيتهم اللغوية وإيقاف نزيفها والعمل على صد معاول هدمها، فليس هناك أقل من أن يؤسس لدعم اللغة العربية هيئة مستقلة أو وزارة تعزز بميزانيات كبيرة فلغتنا هي شخصيتنا إن فقدناها فقدنا أنفسنا.
الحديث حول نصرة اللغة العربية يطول ولي عودة له إن شاء الله.