أنا وكثير من القراء الأعزاء نعرف عن قرب أو نصادف في حياتنا من هو رهينة لظاهرة نفسية مركبة تجعلهم أقل فاعلية وربما أقل جاذبية في علاقاتهم الاجتماعية ، هذه الظاهرة يعبر عنها في علم النفس بظاهرة ( العشب هناك أكثر أخضراراً ) (The grass is greener on the other side syndrome ) وهي شعور عميق في داخل البعض تجعله غير ثابت على قرار أو خيار من خيارات الحياة ، فلا يكاد يختار أمراً إلا ويسعى للخلاص منه رغبة في آمر آخر ، وعندما تصبح الخيارات مصيرية كالتخصص في الدراسة أو الزواج والعمل تصبح الحالة مؤلمة لصاحبها وللآخرين الذين تمسهم تلك القرارات المتغيرة ، ومن حسن حظ البعض هذه الظاهرة تلازمهم في بدايات خياراتهم فيسيطرون عليها حتى تضمحل مع الوقت والاعتياد ، ولكن من سوء حظ البعض أن هذه الظاهرة تصبح حالة مرضية تؤثر في مدى نجاح صاحبها في الحياة والعلاقات فينتهي للاكتئاب والضياع وعدم الثقة بالنفس وأمراض نفسية أخرى .
يكاد يجمع المختصون ، على أن الباعث للظاهرة و هو الخوف من الخطأ في الخيارات و الرغبة في المثالية ، ويضيف بعضهم عامل آخر وهو قلة الخبرة وقلة الثقة بالنفس ، فالعامل الأول عظيم عند من يمثل الإخفاق له كارثة نفسية ، حيث يبعث الشعور بالخوف من الخطأ إرباكاً للإدراك المنطقي للمخاطر ويستثير القلق والرعب فتتملك صاحب الظاهرة حالة ذعر ورغبة جامحة في التخلي عن اختياره بأي ثمن ومهما كانت الخسائر ، وهذا يلاحظ كثيراً في حالات الانسحاب الدرامي من مشاريع الزواج على وجه الخصوص ، أما العامل الثاني فهو نزعة للمثالية وطلب لتمام الأمور بصورة كاملة ، فيصبح صاحب الظاهرة في بحث دائم عن الخيارات الأفضل وكلما استقر خياره في شأن بان له ماهو أفضل منه ، وهكذا يقفز من أفضل لأفضل حتى يفقد القدرة على التمييز ويصبح القفز بين الخيارات أمر لازم كوسواس قهري ، أما العامل الثالث فهو نتيجة تظافر العامل الأول والثاني في حال انعدام الثقة بالقدرات الذاتية والشك في مصداقية ترجيح أي من الخيارات المتاحة و قد يكون ذلك نتيجة لقلة المعرفة المتوفرة واللازمة لحسن الاختيار ، وهذه الحالة تزول مع تنامي الخبرة و توفر المعرفة وهي شبه لازمة للمستجدين في العمل .
لا يعتبر المختصون ،ظاهرة (العشب هناك أكثر اخضرارا) علة نفسية تستوجب العلاج الأكلينيكي ، ولكنها قد تقود لعلل نفسية تستحق الاهتمام ، لذا ينصح بمن يلاحظ عليه بوادر الظاهرة أن يعي بها أولاً ، ثم يقيم القسرية في الشعور ، فإن كان يستطيع كبح الرغبة في تغيير اختياراته فالأمر سيكون طارئاً وسيزول مع الوقت والاعتياد ، أما إذا صاحب كبح الرغبة مشاعر بالضيق وتشتت بالتفكير ، فالأمر عندها يحتاج لمعونة متخصصة ، حتى لا يستفحل .
كثير من الناس يشعر في فترة من فترات حياته أو في حال مواجهة خيارات صعبة ، بهذه الظاهرة وتمر الأيام وتصبح من الذكريات ، ولكن لا يجب الاستهانة بها عندما يصبح التحليل المنطقي وحساب المخاطر والمكاسب غير فعال في تغليب الخيارات وعندما تستولي الحيرة على الذهن ، ويفقد الإنسان الرغبة حتى في الاستشارة المتخصصة ، فضغوط الحياة وكثرة الخيارات وقلة المعلومات وفداحة الخسائر و قسوة المخاطر كلها صبحت أكثر مما كانت عليه في الماضي وبات على الإنسان أن يتعامل معها بذهن صاف وعقل فاحص وضمير يقض و مشاعر مستقرة وطمأنينة في الاختيار.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail