الوقفة الثالثة: الرفق بالمنصوح وطلب الخير له، والرفق خير كلّّه، ولا يتولد منه إلا الخير، ففي صحيح مسلم أن رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إن الله رفيق يحب الرفق ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على ما سواه»، وفيه أيْضًا أن رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه»، وأخرج أيْضًا عن جرير رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «من يحرم الرفق يحرم الخير»، وقد طبَّقه رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم في حياته فمن ذلك ما جاء في الصحيحين واللفظ للبخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان اليهود يسلّمون على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يقولون: السام عليك، ففطنت عائشة إلى قولهم، فقالت: عليكم السام واللعنة، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مهلاً يا عائشة أن الله يحب الرفق في الأمر كلّّه»، فقالت: يا نبي الله أولم تسمع ما يقولون؟ قال: «أوَلم تسمعي أني أرد ذلك عليهم، فأقول وعليكم».
فعلى الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون شعاره الرفق وسيجد أثره ولو بعد حين، ومن ألزم الأوقات التي ينبغي لزوم الرفق فيها موسم الحجِّ لكثرة الجهل، واختلاف الطبائع، فالمحتسب في توجيه الناس في ذلك الموسم العظيم عليه حملٌ ثقيلٌ، فقد يواجه من بعض الناس كلامًا شديدًا، وقد يناله من سوء أدب بعضهم ما يكدِّر خاطره، ومع ذلك فعليه بالرفق معهم، فلن يسمع من الأذى ما سمعه رسولنا صلَّى الله عليه وسلَّم ومع ذلك كان رفيقًا، وعاملهم بعدل وحلم ورفق، وعلى المحتسب ألا يجعل المعصية التي ارتكبها أحد الحجاج طريقًا للخروج عن الرفق فقد لا ينتفع المنصوح بالنصيحة ولا يكسب الناصح الأجر، أذكر مرة كنت في الحجِّ ذاهبًا مع أحد طلبة العلم وكان شديدًا على المدخنين فلا يكاد يَرَى مدخنًا إلا وأنكر عليه مع رفع صوت وزجر، وأحيانًا لا يعلم المدخن ما يريده هذا الناصح لاختلاف لغته، بل وأحيانًا قد لا يعلم أنه ينكر عليه في مسألة الدخان، فقلت لصاحبي: جزاك الله خيرًا على جهدك، وشكر الله لك إنكارك، لكن أين الرفق في أمرك ونهيك؟ فقال: أنا يضيق صدري وانفعل حين أراه يدخن، كيف يدخن وهو حاجٌ قريبٌ من بيت الله الحرام؟! فقلت: أليس لك في سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم متسع؟ قال: بلى، فذكرت له حديث الرفق ومناسبته، وأن المراد توضيح الحقِّ ورحمة الخلق، وأنك تستطيع إنكار المنكر بطريق أفضل من رفع الصوت عليه، ولفت الأنظار إليه، بقولك: السَّلام عليكم يا عبد الله، اتق الله جئت حاجًا تطلب رضى الله والجنَّة كيف تقدم على الفعل الخبيث ومثلك لا يفعله، تنصحه بالكلام الطيب بلا زجر ورفع صوت، وذكرت له أن هذا الحاج قد يتصور عن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر أنهم أهل شدة وغلظة وتنفير للناس، فقال: كلامك صحيحٌ. قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} (159) سورة آل عمران، وقال لموسى وهارون عليهما السَّلام حين أمرهما بالذهاب لفرعون: {فَقُولَا لَهُ قولاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يتذكّر أو يَخْشَى} (44) سورة طه، ففي «هذه الآية عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار وموسى صفوة الله من خلقه إِذْ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين» مع أن فرعون واقع في أعظم المنكرات وهو الكفر بالله وادّعاء الربوبية. قال النووي -رحمه الله-: «وينبغي للأمر بالمعروف والناهي عن المنكرأن يرفق ليكون أقرب إلى تحصيل المطلوب». وقال ابن رجب -رحمه الله-: «وبكل حالٍ فيتعين الرفق في الإنكار». قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: (الرفق سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وقال سفيان الثوري -رحمه الله- : «لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر إلا من كان فيه خصال ثلاث: رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى، عدل بما يأمر، عدل بما ينهى، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى».
أسأل الله أن يصلح حال المسلمين، وأن يمكّن لأهل السنة في كلِّ مكان.