هو الشيخ العابد الوقور الفقيه القاضي عبد الله بن عثمان بن أحمد ابن عثمان (مؤرخ نجد المشهور) بن عبدالله بن عثمان بن أحمد بن بشر، من الحراقيص من قبيلة بني زيد، ولد في 1347هـ. يقول محمد أخوه: «ولد الشيخ بمركز الأجفر التابع لمنطقة حائل في أواخر عام 1347هـ، وعاش في كنف والده الشيخ عثمان بن أحمد البشر الذي اختاره جلالة الملك عبدالعزيز - عليه رحمة الله - ليكون إماماً ومرشداً لقبيلة الزيبار من شمر بإمارة الشيخ ندا بن خلف بن نهيِّر، الذي صدق مع الملك عبدالعزيز، وقُتل تحت لوائه في وقعة أم رضمة عام 1348هـ رحمهما الله، وحالما نزل الوالد على الشيخ ندا في هجرته التي منحها له الملك عبدالعزيز (الأجفر) زوَّجه الشيخ ندا ابنته، التي ولدت الشيخ عبدالله وأخاه يحيى. تلقى العلم من والده، واستفاد منه، ولما توفي والده سنة 1367هـ حل محل والده - رحمهما الله - في الإمامة والخطابة، ثم أراد أن يتزود من العلم فسافر قاصداً سماحة الشيخ العلامة عبدالله بن محمد بن حميد -رحمه الله- في مدينة بريدة، ولازمه عشر سنين، وكان يقرأ عليه، وكان يتردد على علماء بريدة طالباً العلم كالشيخ السكيتي وغيره، ولما رأى الشيخ عبدالله بن حميد -ببصيرته الثاقبة في الرجال - ما حصَّله الشيخ عبدالله بن بشر من علم وفضل ودين رشحه للقضاء؛ فعُيِّن قاضياً بتربة ثم نقل إلى حوطة سدير، ثم رئيساً للمحكمة العامة في مدينة عنيزة، ثم عُيّن بعد ذلك قاضي تمييز ثم مستشاراً شرعياً بالديوان الملكي بعد تقاعده».
عمل - رحمه الله - قاضياً بتربة ثماني سنين من عام 1389هـ بعد أن لازم الملازمة القضائية بطلب منه، ثم انتقل إلى حوطة سدير قاضياً فيها سبع سنين من عام 1397هـ ثم رئيساً لمحكمة عنيزة ست سنين من عام 1404هـ ثم قاضي تمييز بمنطقة الرياض من عام 1410هـ إلى أن تقاعد عام 1417هـ، ثم طُلب للاستشارة في الديوان الملكي من عام 1418هـ، ثم استعفى منها بعد سنتين.
والشيخ ليس من حملة الشهادات، ولم يتخرج من كليات شرعية، ولكن حضوره دروس الشيخ عبدالله بن حميد كافية لأن يُولَّى مثله القضاء، وأن يرشح له، كيف وقد اجتمعت في الشيخ عبدالله صفات قلَّ أن تجتمع في رجل؛ فقد كان حكيماً فقيهاً وقوراً مُلئ عقلاً قليل الكلام إلا فيما ينفع مقبلاً على العبادة والطاعة، لا تخطئه العين قبل الأذان في المسجد خلف الإمام على جادة الأوائل وطريقة السلف.
لما كان قاضياً في حوطة سدير أُلقي القبض على رجل وحكم عليه الشيخ بما يستحقه من جلد وسجن، وكان الجلد مفرقاً على أيام، وهذا الرجل ليس من أهل سدير فجاء بعض جماعة الرجل إلى الشيخ عبدالله، وكان الشيخ يعرفهم ويعرفونه، فكلموا الشيخ في موضوع الرجل, فقال الشيخ: ما يكون إلا خيراً، وقام الشيخ بحق الضيافة وتناولوا الغداء عند الشيخ، فلما جاؤوا منصرفين قال الشيخ: قد كتبنا لرئيس الشرطة فاذهبوا إلى مركز الشرطة. فلما جاؤوا إلى الشرطة قال رئيسها: الشيخ كتب إلينا بخطاب وأبشروا، فأحضروا الرجل وقد بقي عليه بعض الجلدات فأتموا جلده أمامهم فقالوا: ألم يكتب الشيخ في أمره؟! فقال رئيس الشرطة: بلى كتب أن نُكمل الجلدات التي عليه وندفعه إليكم بعد ذلك، فعلموا أن الشيخ لا يحابي أحداً.
حدثني والدي - حفظه الله وأمد في عمره على طاعته في صحة وعافية - أن الشيخ عبد الله - رحمه الله - من أفضل القضاة الذين تولوا القضاء في حوطة سدير، بل لم يتولَّ القضاء في حوطة سدير مثله بعد الشيخ صالح بن غصون، وقد أنهى قضايا مستعصية، وحلَّ مشكلات عويصة مكثت سنين.
لما طلب الإعفاء من الاستشارة في الديوان الملكي تفرغ للعبادة وتدريس الطلبة، وكان الطلاب يفدون إليه للقراءة عليه، وكان إذا استأذنه أحدهم في القراءة عليه قال له: «والله يا ولدي أنا ودي أنفع نفسي وأنفعكم ولكن البضاعة قليلة، ولكني لا أرد أحداً أحسن ظنه بي».
كان - رحمه الله - حريصاً على إفادة الطلاب، فكان إذا سأله بعضهم عن مسألة قال: هذه تحتاج لبحث. ثم يقوم الشيخ ببحث المسألة، ثم يكتبها في ورقة، ويعطيها للطالب.
كان ملازماً للمسجد منذ عُرف، فحين كان قاضياً في حوطة سدير كان يأتي مبكراً إلى المسجد، وكان يقرأ عليه إمام المسجد في زاد المستقنع، والشيخ رحمه الله يعلق على الكتاب، وكان من المشهور عنه أنه إذا لم يُر خلف الإمام فهو مسافر أو عرض له عارض، تجده تالياً لكتاب الله، يختم القرآن دائماً، وكان متدبراً متأملاً، ربما التفت أحياناً لمن بجواره بعد الصلاة إذا كان يعرفه، وقال: «الآيات التي قرأها الإمام عظيمة لو صادفت منا قلوباً حية».
لم يلفت إلى دنيا، ولم ينافس أهلها، ليس له مصدرٌ إلا مرتبه الذي يتسلَّمه من الوظيفة، إذا رأيته علمت أنه ليس من أهل الدنيا، رأيته في المسجد الحرام، في مكان عهدتُ أن أراه فيه مسبحاً مستغفراً ذاكراً تالياً.
ذهبتُ مرة لزيارته - رحمه الله - بعد أن أجرى عملية بعينه، بصحبة شيخنا الشيخ فهد بن جاسر الزكري، فكان يسأل الشيخ فهد عن إمام المسجد الذي كان يصلي فيه الشيخ أثناء قضائه في حوطة سدير؛ إذ إنه جاره وإمام مسجده، فالشيخ - رحمه الله - لم ينسَ جاره الذي انتقل عنه منذ سنوات عديدة.
كان الشيخ فهد يقول: «الشيخ عبدالله محمود السيرة، وصاحب خصال جميلة، ومتودد للناس، وصاحب طرفة في وقتها، وحسن المعشر، كريم الخُلُق».
أحبه أهل الأجفر، وما زالوا يذكرون فضله، وأحبه أهل تُربة، وما زالوا يذكرونه بخير، وأحبه أهل سدير، ويذكرون أيامه ذكراً حسناً، ويوجد بها شارع يحمل اسمه، وكلما حل محلاً فهو كاسب للناس بخلقه ولطفه وحسن تعامله، وذلك من توفيق الله له، ومن أعظم أسباب ذلك - في ظني - زهده رحمه الله فيما عند الناس، ليس في أموالهم ودنياهم بل في مدحهم وثنائهم، فلم يكُن يتطلع لذلك، أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحداً.
من أعجب الخصال التي رأيتها في الشيخ قلة كلامه، وتعفف لسانه، فهو إمام في هذا الباب رحمه الله.
كان مداوماً على النزول إلى مكة، خاصة في رمضان، حرصاً على التزود من الخير.
وفي مساء يوم الأربعاء ليلة التاسع من شهر رمضان هذا العام (1434هـ) توفي - رحمه الله - عن عمر 87 سنة، رحمه الله رحمة واسعة.
وأوصي طلاب الشيخ وغيرهم ممن له اهتمام بجمع أقضية الشيخ ودراستها، ولتكن في رسالة علمية؛ فهو قاض من الطراز الأول رحمه الله وجمعنا به ووالدينا ومشايخنا في الفردوس.
- عضو هيئة التدريس بالمعهد العالي للقضاء.