لا أنسى أبداً مبادرتي أحياناً وأنا في المرحلة المتوسطة إلى المسجد الذي يقع في حينا حي المدارس بحوطة سدير حين يؤذن المؤذن فأجلس في روضة المسجد كما يسميها بعضهم منتظراً قدوم أحد قضاة البلد الذي كان قد استأجر بجوارنا بيتاً وكان كفيفاً رحمه الله, فكنتُ أنتظر سلامه عليَّ بعد أدائه لتحية المسجد فكان يسلم عليَّ ويسأل عن الحال, وكان يحدث جماعة المسجد بعد الصلاة ويوجهنا ويُلحَّن موعظته أحياناً, بل رحمه الله أعاد ما كان يُعمل منذ سنوات من تحضير المصلين من جيران المسجد بعد صلاة الفجر فكانت الأسماء تتلى بعد صلاة الفجر - وإن استحسنتُ هذه الطريقة - إلا أنها كانت في ذلك الوقت تفسد علي عدَّ التسبيح فكم مرة كنتُ أترقَّب اسمي تاركاً الاستغفار وعدَّ التسبيح!
وكان يتولى أحياناً دعاء القنوت في صلاة التراويح برمضان.
وكان من حسناته أن دعم موضوع تحويل مسجدنا في حي المدارس إلى جامع تقام فيه صلاة الجمعة وكان أول من خطب فيه الجمعة هو الشيخ رحمه الله وكنتُ حاضراً خطبته.
كان الشيخ رحمه الله يذهب إلى بعض القرى والبلدان المجاورة لإلقاء كلمات توجيهية, وكان باذلاً لجاهه يشفع لكثير من الناس في حوائجهم.
وكان يفتي الناس ويرشدهم وينصحهم في أي بلدة نزل بها.
كان مسابقاً لفعل الخيرات خاصة بناء المساجد في خارج المملكة, وهذا أمر لا يعرفه أكثر الناس, بل كان صاحب السهم الأكبر في إنشاء جامعة الدعاة للسنة النبوية بإندونيسيا بمرفقاتها من سكن للطلاب وغيره.
أمضى في حوطة سدير ما يقارب ثلاث سنوات وشيئاً ثم تمَّ تعيينه عضو هيئة التمييز بمنطقة مكة المكرمة عام 1415هـ.
يقول الشيخ متحدثاً عن حياته في لقاء أجرته مجلة العدل في عددها الأربعين ما نصه: (اسمي: محمد بن عبدالله بن محفوظ بن ناصر بن معيذر من قبيلة عائذ من عبيدة من قحطان من مواليد بلدة اليمامة بالخرج عام1357هـ كُفَّ بصري وعمري سنتان, تربيت وعشتُ في كنف والدي ودرست في عدد من الكتاتيب حيث التحقت وعمري ست سنوات بحلقة عبدالعزيز بن سعد العبيدي وتعلمتُ على يده قراءة القرآن وحفظتُ أربعة أجزاء منه, ثم درست في حلقة علي بن محمد بن خضير إمام مسجد باليمامة وحفظت على يده أربعة أجزاء أخرى, ثم انتقلت مع والدي للرياض وأكملت حفظ القرآن على يد صالح بن محمد آل مصيبيح وكان عمري آنذاك 12سنة, وبعدها درست على يد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ ثلاثة الأصول وكشف الشبهات والتوحيد والعقيدة الواسطية ثم على يد أخيه عبداللطيف اللغة العربية والفرائض.
ثم التحقت بالمعهد العلمي بالرياض بعد افتتاحه بعام ثم بعده كلية الشريعة وتخرجت منها عام 1381هـ.
يواصل الشيخ رحمه الله قوله: (مشايخي في الكلية كثر من أبرزهم سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز والشيخ عبدالرزاق عفيفي والشيخ صالح بن علي الناصر والشيخ محمد الأمين الشنقيطي.
بعد تخرجي لم أمر بمرحلة الملازمة ففي 11-6-1382هـ عينتُ قاضياً في بلدة الحريق وتوابعها لمدة تسع سنوات ثم انتقلت إلى ثادق وبقيت فيها عشر سنوات وفي 1-1-1401هـ نقلت رئيساً لمحاكم حوطة بني تميم، وفي عام 15-9-1410هـ نقلتُ إلى المحكمة المستعجلة بالرياض وبعد مضي سنة نقلتُ إلى محكمة حوطة سدير لمدة ثلاث سنوات ونصفاً, وفي عام 1415هـ صدر الأمر السامي بتعييني عضو هيئة تمييز في مكة المكرمة وفي عام 1426هـ تمت ترقيتي على درجة رئيس محكمة تمييز، وفي 1-7- 1427هـ تقاعدت عن العمل، حيث أمضيتُ قرابة 45سنة في العمل القضائي).
يقول الشيخ رحمه الله: (أتذكر أول راتب تقاضيته كان [975] ريالاً وآخر راتب تقاضيته وأنا على رأس العمل [36300] وأحمد الله سبحانه زيادة الراتب بعد التقاعد حيث أتقاضى الآن [38640] ريالاً، وهذا فضل من الله تعالى إظهاراً للنعمة التي أسبغها علينا الله فضلاً وامتناناً ثم تذكيراً لأصحاب الفضل من ولاة الأمر والحكومة الرشيدة أعزها الله ونصرها بقوته وتمكينه).
للشيخ رحمه الله إسهامات في التأليف فله رحمه الله مجموعة خطب في مجلدين اسمها (اللآلي والجواهر في جوامع الخطب والمواعظ) طبعت غير مرة.
وقد قرأتُ له بعض الرسائل والتوجيهات النافعة فمن رسائله: أهمية صلاة الجماعة, ورسالة في أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, ورسالة في التحذير من شهادة الزور، ورسالة في بر الوالدين والتحذير من العقوق, ورسالة في التحذير من المخدرات, جعلها الله من العلم النافع الثابت أجره, الدائم نفعه.
أتمَّ رحمه الله صيام شهر رمضان هذه السنة (1434هـ) في مكة وبدأ بصيام ست من شوال وصام اليوم الأول والثاني وبعد صلاة العشاء في اليوم الثالث من شوال أحسَّ بألم في بطنه ثم توفي في تلك الليلة رحمه الله, وصلي عليه بعد صلاة العصر في المسجد الحرام ودفن بمكة.
أقترح على أولاد الشيخ وفقهم الله أن يجمعوا جميع رسائل الشيخ ويطبعونها تحت مجموعة تحمل اسم الشيخ, كما أقترح أن تجعل مكتبة الشيخ وقفاً على الجامعة التي أسهم فيها الشيخ بإندونيسيا تحمل اسمه ينتفع بها الطلبة في تلك البلاد.
رحم الله الشيخ محمداً وجزاه عما قدَّمه خيراً, وجمعنا به ووالدينا في أعلى جنانه.