عندما تحدث العَلَمْ
أحمد بن زيد الحسين

خلال رحلة طيران داخلية بالولايات المتحدة الأمريكية التقيت بالسيد إيدي وهو رجل أعمال أمريكي، وعند جلوسه بجانبي في مقعد الطائرة صافحني وعرَّف بنفسه: إيدي من الولايات المتحدة الأمريكية، فعرَّفت بنفسي: أحمد من المملكة العربية السعودية فعلَّق قائلاً: (السعودية أصحاب العَلم الأخضر والسيف)، وفور سماعي لكلمة (السيف) أوجست في نفسي خيفة فخشيت من أن يكون السيد إيدي قد أساء فهم معنى السيف في راية بلادي. فسألته ومن أي نجمة (1) أنت من نجوم (المجد القديم old glory أحد أشهر ألقاب علم الولايات المتحدة الأمريكية - فأجاب بابتسامة الاعتزاز من ولاية بنسيلفينيا، ثم سألني إن كنت أعرف مدلول السيف في عَلم المملكة العربية السعودية.
إجابتي المطوّلة أوضحت فيها للسيد إيدي أن الاهتمام بالسيف بدأ منذ عصور ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، حيث كان الرجل العربي يولي اهتماماً كبيراً بسيفه فيحرص على صقله وشحذ طرفه وسن نصله ولا يسير بدونه وقد يأوي للفراش وهو بجانبه فهو رمز الكرامة ودليل الشرف ووسام أخلاق الفروسية وعلامة الاستعداد للدفاع، وبسبب تلك المكانة المميزة التي احتلها السيف في قلب العربي والمسلم فقد سمى أبناءه بأسمائه العديدة كسيف ومهند وحسام وغيرها بالإضافة إلى الألقاب كسيف الله المسلول وسيف الدولة.
ومن خلال هذا الاهتمام حظي السيف بعد ذلك بمكانه مرموقة كفن إسلامي عريق له تاريخه وحضارته وفن صناعته ونقشه، فقد كان سلعة مهمة متعددة الأشكال والأنواع، وحضارة السيف لم تكن مقتصرة على العرب والمسلمين فقط، فسيوف الساموراي التي يبلغ عمرها حوالي 2000 سنة جزء من التاريخ الياباني العريق، وفي أوربا وتحديداً في القرن الخامس عشر ميلادي ظهر سيف جديد يكاد يكون مقصوراً على المحاربين النبلاء وسُمي (بسيف السلام) مما يدل في نهاية المطاف على أن السيف سلاح يوجه للخير أو للشر مثله مثل بقية الأسلحة.
والمهم في حديثي للسيد إيدي أن سيف الإسلام لم يكن لنشر الإسلام بحده كما يعتقد البعض فنبي المرحمة قبل الملحمة عليه صلوات الله وتسليمه قال لمن عاداه في فتح مكة وهو الأقوى حينها (اذهبوا فأنتم الطلقاء) ولم يضع صلى الله عليه وسلم سيفاً على رقبة أقرب الناس له من غير المسلمين وهو عمه أبو طالب ليرغمه على دخول الإسلام وقد توفي عمه على غير ملة محمد صلى الله عليه وسلم. إن تاريخ غزوات النبي محمد صلى الله عليه وسلم أوضحت بجلاء أن تلك الحروب كانت قائمة لأسباب تعد في وقتنا الحالي شعارات ونصوصاً لحقوق الإنسان كالدفاع عن النفس واسترداد الحق وحمايته، والذود عن من تعرض لظلم. والمسلم - في كل زمان ومكان - في ديننا الإسلامي الحنيف ملزم من خلال أوامر إلهية بعدم التعدي والإثم والظلم والعدوان والفساد في الأرض والآيات في ذلك كثيرة كقوله تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
لقد ظل السيف سلاح دفاع رئيسياً للشرفاء من البشر في مختلف أنحاء العالم يرعى كرامة الإنسان وشرفه وينفي الظلم وينصر الحق حتى اخترعت البندقية، وعندها تلاشى بريق السيف كسلاح ولكن ازداد وميضه ولمعانه كتراث ملهم في حضارات شتى حول العالم، فها هو السيف إلى يومنا الحاضر يعكس عزَّ الماضي في عيني التراث السعودي الزاخر لنبصر صوراً لتاريخ المجد التليد لهذا الوطن فأصبح السيف الزينة الأكثر بروزاً في اليوم الوطني ومهرجانات ومعارض التراث، ولعل المحفل الأهم له في التراث السعودي هي العرضة السعودية التي ننتشي لها بفرحة عز وبهجة فخر. ولم يعلن السيف اعتزاله في عالم الرياضة فقد احتفظ السيف بلياقته الرائعة من خلال بقائه كواحد من الألعاب الأولمبية العالمية مثل رياضة الشيش ورياضة السيف الكهربائي المستحدثة أخيراً.
بعد هذا الحديث أوضحت للصديق أيدي معني الشهادتين ومعنى الألوان في العلم السعودي، وتفرع الحديث بعد ذلك في الإسلام والمملكة وحضارتها وتاريخها ليمضي الوقت بمتعة لكلينا طوال تلك الرحلة. ولا تزال المراسلات بيني وبين السيد إيدي قائمة كان آخرها دعوة كريمة لزيارته في مزرعته خلال فترة الصيف فاعتذرت له بأنني قد أكون خلال فترة الصيف في المملكة ولكنني حتماً سأزوره في وقت لاحق، ففاجأني بالقول إن: كنت ستذهب للسعودية في الصيف فسوف أزورها معك، رحبت به وقلت له لك منزل هناك.
عند عودتي للمنزل وبعد حديثي مع السيد إيدي تأملت طويلاً في العَلم السعودي على مكتبي الدراسي وتهيأ لي أنه يريد التحدث إلي فسألته بعض الأسئلة:
- من أنت؟
العَلم: عَلم المملكة العربية السعودية، راية التوحيد، الخفاق الأخضر، بيرق العز، ولواء الخير.
- ماذا تعمل؟
العَلم: وظائفي عديدة منها:
- أمثّل العقيدة والحكومة والشعب والأرض.
- أحرّك مشاعر الوطنية والولاء والوحدة.
- أذكِّر بتاريخ وتراث المملكة العربية السعودية.
- ماذا تعني ألوانك؟
العَلم: الأخضر هو لون الطبيعة والخصوبة والنماء والرزق، واللون الأخضر عند علماء الألوان مرتبط بروح الدفاع والمحافظة على النفس والاستقرار، فهو يبعث في النفس الاسترخاء فيقلّل من ضربات القلب ودرجة الحرارة، والأخضر هو اللون الذي أتمنى أن أراه بساطاً لقرى ومدن مملكتنا الحبيبة عليه وأود أن تكون الخضرة في أرجائها خضرة أرض وعمل وإنتاج. وهو أخيراً لون النعيم والخلود يقول الله عزَّ وجلَّ: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ}.
إما الأبيض فهو لون النور - الذي تختبئ منه خفافيش الإنسانية - واللون الممثِّل الدائم لنقاء النيَّة وصفاء القلب في كثير من الشعوب وعديد من الأمم، وعالمياً الأبيض رمز للسلام والمحبة والوئام. وهو في كتاب الله لون يدل في الآخرة على طهارة الأعمال والأقوال يقول الله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ}.
- هل الرفرفة لغة؟
الرفرفة هي نبض إحساس الوطن، إنها لغة صامتة محملة بأحاسيس المواطن السعودي فأنا مثلاً أرفرف فرحاً عند أي قول أو عمل من السعوديين داخل الوطن أو خارجه تكون العوائد فيه خيراً للإسلام والمملكة والإنسانيه، وأسعد كثيراً في اليوم الوطني الذي أجد نفسي فيه ملصقاً على قلوب الأطفال ومتوجاً فوق رؤوسهم وهم ينشدون: سارعي للمجد والعلياء مجّدي لخالق السماء.... ولكنني أرفرف حزناً بحزن المواطن السعودي المخلص فحزنت كثيراً على فقدان رجال أمننا البواسل شهداء الواجب الأبطال تغمدهم الله بواسع رحمته وأسكنهم فسيح جناته.
- ما معنى كلمة الشهادتين التي تحملها بفخر وشموخ؟
العَلم: لطالما كان الفضل بعد الله لمؤسس هذا الكيان وحامل لواء الوحدة التاريخية الملك عبد العزيز - طيَّب الله ثراه - في ظهوري بهذا الشكل، وأود هنا أن يكون - غفر الله له - مفسراً لمعناها، فكثيراً ما تحدث عنها في كلماته الألمعية وإليكم ما يقول في حديثه خلال حفل تكريم أعز ضيوف لبلاد الحرمين الشريفين حجاج بيت الله في شهر ذي الحجة عام 1356هـ: (من نعم الله علينا معرفة كلمة لا إله إلا الله.. وكل إنسان يعمل بها تتم له السعادة.. فهذه الكلمة هي كل شيء، ومضمون كل شيء.. لأن كلمة لا إله هي كلمة نفي، تنفي كل معبود سوى الله.. وكلمة إلا الله إثبات العبادة له سبحانه وتعالى، وهو - سبحانه وتعالى - خلق الخلق وأرسل إليهم الرسل، وأنزل عليهم الكتب، وكلهم يدعون إلى الله وآخر الرسل هو صفوة الأولين والآخرين وسيِّد أهل السموات والأرض وأفضل جميع المخلوقات محمد صلوات الله وسلامه عليه).
- حدثني عن السيف الذي تحمله؟
العَلم: أذكِّرك بقول الواثق بالودود الملك عبدالعزيز آل سعود - غفر الله له - والذي يقول أيضاً في كلمة له أمام ضيوف الرحمن في مكة في عام 1350هـ: (والله ليس لي من المال من شيء ولا أملك غير السيف والمصحف)، فكان منهج السيف مشتقاً من تعاليم المصحف التي هي أوامر ربانية تصون حقوق جميع البشر دون تفرقة، والسيف في سياسة الملك عبد العزيز أصبح فيصلاً بين الحق والباطل والخير والشر والدفاع والاعتداء بقوله: (أنا لا أحب الاعتداء علي أياً كان، وجل غايتي في كل وقت الدفاع عن ديني وشرفي وبلادي، وأشهد الله في هذا الشهر المبارك على أنني أتمنى وأسعى للائتلاف والتصافي في كل وقت وآن).
ألا يحق لي الآن أن أجزم يقيناً أن السيف الذي أحمله يكاد يكون ظل برقان - أحد سيوف الملك عبدالعزيز - أو أي سيف من سيوفه.
بلى يحق لك ذلك أيها العَلم، وسلمت لنا أيها العَلم الذي يحمل كل معنى لعقيدتنا وأخلاقنا ومجد تاريخنا الماضي وتقدّم حاضرنا ونور مستقبلنا، وشكراً لك فأنت تختصر قيمنا النبيلة في زمن تتكالب فيه قوى الشر والعدوان على أمتنا الإسلامية، وستظل يا عَلم التوحيد ترفرف فرحاً فوقنا وأفئدة شعب المملكة ملتفة حولك كأسرة واحدة وأنت في يد القائد الملك الفارس خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود الذي تسلَّمك بكل أمانة وإخلاص من الملك عبدالعزيز تداولاً - بالبيعة السمحة - من خادم الحرمين الشريفين الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله، وأبشر يا بيرق الإيمان الذي أضاء الكون بالركن الأول من أركان الإسلام فستبقى مرفوعاً ترفرف بسلام في يمين خادم الحرمين الشريفين ونحن حوله ولن يطولك الأعداء.
(1) النجوم في العلم الأمريكي ترمز لكل ولاية من الولايات المتحدة الأمريكية.