| |
يوم الأربعاء
|
|
اليوم الأربعاء، ونسمات السحَر تُبشِّر بإجازة أسبوعية رائعة، سيقضيانها كما خطّطا لها في البدء في دروس تربية الأجنّة قبل ميلادهم، وَ نتائج الدراسات العلمية الحديثة في علم الأجنة والتربية قبل الولادة! فكرةٌ خطرتْ ل(محمد)، وأقنع بها زوجته، وهما يَعدّان الأيّام في جدولهما الذي يُغطّي أشهر الحمل التسعة؛ لتنعم عيناهُ بصغيره أو صغيرته الذي سيستمتع برمي (البريهة) على رأسه أوّل ما يراه؛ ليشعر أنّه جندي قادم للمستقبل مثل والده. هذا السحَر هادئ جداً، وهما نائمان .. لكن (سارة) شعرت بشيء ما يتحرك في السرير، بل إنّه ملتصق بها، تحسّست بيديها، ولا شيء، فتعوّذتْ بالله من الشيطان الرجيم، وأخفتْ رأسها أكثر في وسادتها مُتكتِّمةً على خوفها، ثم هدأت حركة الشيء الغريب، فنامت بعمق وبسرعة مفرطة، كأنّما تهرب من تذكُّر تلك الحركة المجهولة! فجأةً، ركلةٌ داخليةٌ قوية، جعلتْ (سارة) تصرخ بكلِّ ما استطاعته، وبكلِّ ما خبّأتْه من خوف قبل قليل، قفز (محمد) مرعوباً بحركته العسكرية لا يكاد يرى أحداً دخيلاً اعتدى على غرفتهما، أو أي شيء غريب، فنفض البطانية بقوّته كلِّها، علَّ هناك دابة أحدثت هذا الرعب؛ ولا شيء، و(سارة) متشنجِّة، يداها كلٌّ منهما معلَّقة في جهة، كأنّما تريدان الهرب من جسدها، وهي تريد أن تهرب أيضاً.. تأمّلها في رعبه وحيرته، عيناها تكادان تنفجران بدموع تجمّعت فيها لأكثر من ساعات، بل أيام، وهي خائفة من نفسها، لا من شيء آخر، وهو يحاول أن يستنطقها بعينيه، ولا تكاد طبيعة الجندي الحذِرة تسمح لعينيه وقلبه ألاّ تُدير المكان برقابته الحادّة في الوقت نفسه، وهي تحاول أن تجد حروف الصراخ الأولى؛ لتصرخ! بعد ثوانٍ أطول من الأشهر، صرخت: : (بطني)!!! وما كادت تُنهي الكلمة، ليتأكّد أنْ ليس هناك بقية حرف ما قد تُغيّر المعنى، فنفر إليها، ولا يبدو أنّها ملسوعة أو أي شيء، وهزّها لتعود لوعيها الذي يغيب ولا يغيب، فصرخت من جديد: - (شيء مرعب ضربني داخل بطني)! وارتمت في أحضانه، تُواصل البكاء الخائف بصدق.. خاف، ثم ابتسم، ثم ضحك بصوت يُغطِّي على بكائها المتكهرب بالهلع الفريد؛ وجعل يُسمِّي عليها، ويُخبرها بأنّه عرف السبب، ولا شيء مُخيف، فقط، لتأخذ نفَساً عميقاً، أو صرخة عميقة، أو حتى بكاءً عميقاً لمرة واحدة، ثم تسكت، وسيكشف لها السر. استجابت له تلقائياً، فهما زوجان صغيران منصهران في نفس واحدة يحرصان على استمرار وحدتها وحميميّتها؛ فصمتت، والدموع تتقافز بلا صوت، لكنّها صمتت، وركّزت مسامعها عليه لتعرف هذا المرعب؛ فضحك، وقال بدُعابة: - (إنّ الجندي الصغير قد نُفِخت فيه الروح، فهذه بداية شهره الرابع. المفروض أنّكِ التي تُعلّمينني، لا أنا، أيتها الحبيبة العجيبة)! قفزتْ من الفرح، وتغيّر الخوف إلى مهرجان سعادة تكاد تنير أجواء الحي الشعبي الهادئ الذي يسكنان فيه. كان ضحكها على أنّها تجهل ذلك شيئاً عجيباً حقاً، فيبدو أنّها - بجهلها هذا وتأجيلها بدء القراءة فيه - أجبرت زوجها على أن يتعلّم نموّ الأجنة إضافة إلى عمله العسكري ودوراته التطويرية، وإن لم تنس أن تعتذر له بصدق! حَمَدا الله - تعالى - على أن سيُريهما بذرة ذرِّيتهما الأولى، وهما في أوج شبابهما؛ لكي يستطيعا تربيتهم تربية صالحة، تحميهم من الأخطار التي فاجأت المجتمع الهادئ بأكوام من الشباب الذين يحملون الموت والدَّمار في قلوبهم وعقولهم، فينفثونه كحيّات الكوبرا أو أخطر، مُحدِثين أزمة أساءت لسُمعة البلاد ولكلِّ مسلم ينطق بالشهادتين مُخلِصاً خالِصاً من كلِّ إثم. نظر للساعة، ما تزال الثالثة والنصف فجراً، داعبها في وجهها؛ ليقوما إلى الصلاة؛ فهذه أول ليلة يستيقظان في هذا الوقت، ولا بدَّ أن يدعوا الله - تعالى - بكلِّ ما يحبّانه لهما ولأطفالهما من طولة عمر في الخير، وصلاح، وهداية، وتوفيق، وستر، وحفظ من نزغات الشياطين الخفيّة. *** الساعة الثانية ظهراً، وهي قد أعدّت حقيبة الدراسة التي أحضرها بالأمس، وطلب منها أن تُعِدّها ليفتتحاها اليوم، ويُمضِيا بصُحبتها العطلة الأسبوعية القصيرة بعيداً عن أي مشاوير أو زيارات قابلة للتأجيل، وليس لها أهمية مثل العمل الذي سيقومان به اليوم الأربعاء. قلبها فرِح ومُنتظِر بلهفة؛ ليعود، ويبدآ هذه المرحلة الجميلة معاً، وأيضاً لتعتذر إليه مرة أخرى عن فزعها الطفولي سَحَر اليوم .. الثانية والنصف، الثالثة إلاّ ربعاً، ولم يأتِ. اتصلت على هاتفه، ووجدتهُ مُغلقاً؛ فقالت: - (الحمد لله، يبدو أنّه على بُعد ثوانٍ من البيت الآن) وألقتْ نظرة على الصالة وغرفة الجلوس الصغيرة التي تستعد بسفرة الغداء والشاي، فابتسمت، واختبأت خلف الباب، لتُفزعه مرة أخرى، لكنْ هذه المرة، وهو مستيقظ، وهي متعمِّدة! الوقت يمشي بعيداً، وتزداد أرقامه، ولمَّا يأتِ، عادت تتصل، والهاتف مغلق. بدأت تتضايق، لكنّها بما اعتادت عليه من الظن الحسن، قالت لنفسها: (قد يكونون في اجتماع طارئ، وبعد دقائق سينتهون. أقلّها الثالثة والنصف حينما يُؤذَّن لصلاة العصر، وسيُطمئنني عليه فوراً). شعرتْ بالتعب، وهي تُخفي نفسها خلف الباب، وتُدير بطنها يمنةً ويسرةً؛ بحثًا عن أكثر الأوضاع إخفاءً لها ولبطنها البارز قليلاً خلف الباب النحيل، فعادت للجلوس انتظاراً لاتصاله أو دخوله مع الباب، وستتنازل عن الاختباء هذا اليوم، لكنها ستفعل ذلك يوم السبت - إن شاء الله -، وبقيتْ يداها لا تفارقان جنينها المستور في بطنها، والذي بدأ يتفنّن في الحركات الخفيفة، وهي تبتسم، وتتخيَّل أنّه يسمع معها الآيات الكريمات والدعوات التي تردِّدها عليه، بل إنّه يبتسم لها، ويُردِّدها .. (سيكون طفلاً خارقاً في الذكاء والتعلُّم، وسنفتخر به كثيراً، وسيصحبه والده معه إلى العمل أحياناً؛ ليُعلّمه الأبجديات الأولى للأمن وحب الوطن، وسيكون سندَنا عندما نكبر) .. كم تتحرّق لأن تراه يكبر ويكبر حتى يضيق به بطنها، فيأذن الله - تعالى - له بالإطلال على الحياة .. بين يديهما، وأمام ناظريهما المتعطِّشين لرؤيته، واحتضانه، وتقبيله، وشمّ روعة الطفولة والبراءة والطُّهر التي تفيض من كلِّ خليّة منه. رنّ الهاتف، وما كادت تقوم إليه، إلاّ ليفاجئها صوت والدها يُسلِّم عليها، ويسألها عن حالها وعن حال زوجها، فأجابته بأنّهما بخير، وما زالت تنتظر عودته من العمل، فسارعها بأنّه على مقربة من بيتهما، وسيأتي لها في ثوانٍ؛ فرحّبت به، وقامت تستعد لمقابلته، فهذا يوم سعيد؛ إذ سيُشاركهما الغداء، وكذلك الدراسة في عجائب الأجنة، ولربّما يكون هو مدرّسهما الخصوصي! كلُّ شيء اليوم يتحوّل إلى أفراح تتعلّق بالأجنّة الذين ننتظر خروجهم بحُرقة أشبه بالجنون. صوت سيارة توقّفت أمام بيتهم الصغير، وربما اثنتين أو ثلاث .. ربّما والدها إحداها، والأخريات للجيران، واقتربت بفرح، وفتحت الباب النحيل في أوّل طرقاته الخفيفة، هو والدها حقّاً، وإن بدا عليه التعب، وجدّتها، وإخوتها الثلاثة وزوجاتهم، وأختها الصغيرة ... شيءٌ مُفاجئ، دقّ قلبها لتسأل، فوُجوه القوم فيها كدرٌ ما، يبدو أنّهم تعمّدوا إخفاءه مسافة الطريق إلى بيتِها البعيد عنهم .. اقترب منها والدها الشيخ الأشيب الأُمِّيّ، وضمّ كتفها بقوة إلى صدره، وسألها بحنان: - (أتؤمنين بأنّ الله واحد)؟ - (إي، وربِّي)! (والدمعة تبدأ الاشتغال في التكوُّن في عينها، وقلبها، وحلقها) - (أتؤمنين بأنّ محمّداً صلى الله عليه وسلم عبده، ورسوله، وخاتم أنبيائه)؟ - (إي، وربِّي)! (والدمعة والغصّة تكبران، والقلب يرتجف، لكن ضمّة والدها أقوى من أن تتركه يُسارع في انفعالاته وتوقّعاته) - (هل ما زالتْ طفلتي الحبيبة تحفظ سورة (الواقعة) التي علّمتُها لها في الصف الأول الابتدائي؟ أسمعيني)! وبجلال الطفولة الكبرى للأبوّة القدسية، ضمّتْ يديها إلى صدرها، وتعوّذت، وبسملت، ورتّلتها بالخضوع الذي علّمها إيّاه، فلمّا انتهت، وكانت نفسها، وجسدها، وكلُّ ما فيها مستعدّاً لسماع النبأ الواقع في يومهم الرائع هذا، مسح على رأسها بادئاً من ناصيتها الهادئة غاية الهدوء: - (أتُؤمنين أنّ الموتَ حقٌّ، يا صغيرتي)؟ وهنا، لم تجبه بالكلمات؛ إذ فهمت المقصود، وما كادت تخرج الحروف الأولى من فمها (م) .. (ح) .. إلاّ ويهزّ لها رأسه بابتسامة دامعة: - (لقد اختاره الله تعالى شهيداً في تفجير إجرامي ظهيرة اليوم في مقرّ عملهم، وأظنّ صغيرتي لم تُغضبه في شيء طوال أشهر زواجهما الستة؛ لتفوز برضا هذا الشهيد؛ والحمد لله على كلِّ حال)! ارتجفت، كلّها أصبحت يقيناً بأنّ الموت حقٌّ، وبأنّ الخيرة فيما اختاره الله، وهذا الصغير يرجف في بطنها كأنّما يقول لها شيئاً ما قد تفهمه في لحظتها هذه أو لا تفهمه، غصّت، وغصّت، وتأمّلت أوجُهَ أهلها واحداً واحداً، وثِقل المصاب يكاد يُسقِطها على الأرض واقفة، والجنين يُرجِف بطن أمّه كأنّما يوقّع لها برقيّة عاجلة جداً .. لا حُزن فيها ولا خوف .. أعادت النظر إلى أبيها الشيخ مُستعرضةً جلال أبوّته في حياتها كلّها، فابتسمت له، وقبّلت جبينه قائلة: - (حسبنا الله ونعم الوكيل. أحسن الله عزاءكَ، يا أبي، وعزائي فيه. اللهم آجرني في مصيبتي، واخلفني خيراً منها). ودمعت عيناه كأنّه لم يكن يتخيّل أن تقف صغيرته هذا الموقف بهذا الوقار والتصبُّر؛ فما أكثر ما كان خوفه من أن تُضيِّع استثمار فرصة الثبات في هذه اللحظة النادرة، بل في بدايات هذه اللحظة، ولا يدري ما يقول، ألجمته دموعه الكبيرة جداً، فابتسمتْ له بتثاقل لا يخفى إعياؤه عليها: - (أبي، ألم تُعلّمني هذا، وأنا ابنةُ سبع لمَّا تُوفَّت أُمِّي)! :(أبي، الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات؛ الحمد لله، وكفى)!! والقوة تُفارقها، والوعي يُفارقها في أحضان والدها وبلادها كلّها، لكنّما هي الصدمة الأولى مع ضراوة الحزن وإجرام الغدر الذي ينفجر في الأماكن والساعات الرائعة فقط، فقط ينفجر في الساعات الرائعة!
الجوهرة آل جِهجاه (*) مُحاضرة في قسم البلاغة والنقد ومنهج الأدب الإسلامي - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية
|
|
|
| |
|