| |
شيء من القاضي عندما يكون مُصلحاً! محمد بن عبداللطيف آل الشيخ
|
|
أسعدني، وأثلج صدري، أن أحد قضاتنا (تحرّر) من التقليد والكلاسيكية، وتقدم إلى مواكبة الإصلاح، وعصر الإصلاح، الذي يقوده (بتمكن) خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عندما حكم هذا القاضي المتميز حكماً (قضائياً) يحملُ الكثير من المعاني الإصلاحية، والتقويمية، نافذاً ببصيرة إلى قيم الإسلام وروح الإنسانية، ومتجاوزاً لأحكام المماثلة التي تعودنا عليها في مثل هذه القضايا، ومواكباً - في الوقت ذاته - مقتضيات التربية الحديثة التي يجب أن يتربى عليها النشء المسلم؛ فقد قرأت في جريدة عكاظ الصادرة يوم الخميس 1-12-1427هـ الخبر الآتي: (أصدر قاضي محكمة المويه - شرق الطائف - حكماً على اثنين من الأحداث المراهقين بتنظيف المساجد وخدمة مكتب الأوقاف بعد ثبوت إدانة الحدثين بالسرقة وتناول المسكر. وكان قاضي المحكمة نظر في القضيتين مراعياً صغر سن المتهمين حيث ألزمهما بتنظيف 26 مسجداً في المويه بمعدل ساعة عمل واحدة لكل مسجد لمدة مائة ساعة خلال شهر.. على أن يقوم مندوب الشرطة وآخر من الأوقاف بالإشراف على تنفيذ الأحكام). انتهى الخبر. وأنا على ثقة بأن حيثيات هذا الحكم القضائي (البديل) في منتهى القوة والتأصيل الشرعي المتماسك؛ انطلاقاً من كونه في النتيجة يُراعي الإصلاح (كغاية) بسعة أفق ورؤية تتماشى - من حيث المبدأ - مع (مقاصد) شريعة الإسلام، كما أن هذا القاضي، بهذا الحكم، يجعل من الأحكام القضائية عاملاً مُحفزاً للمحكوم عليه لأن ينتظم كمواطن صالح ومستقيم وسويّ في المنظومة الأخلاقية المقبولة من مجتمعه الذي يتعايش معه. ومثلما أن جزاء العمل الصالح (الثواب)، فإن جزاء العمل السيئ (العقاب). والهدف والقصد من العقوبة يكمن - دائماً وأبداً - في (حفظ التوازنات في المجتمع)، حسب ما تمليه الشريعة (حفظ الكليات الخمس: الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال)؛ أو ما تمليه تعاليم السلطات الحاكمة التي تتلمس مصلحة الوطن والمواطن، وتسعى أنظمتها إلى إشاعة العدل، وضبط الأمن والاستقرار. وفلسفة العقوبة في شريعة الإسلام، هي من حيث المنطلق تأتي كأداة تقويم وردع وزجر وإصلاح، وليست (أبداً) أسلوب تشفٍّ أو انتقام أو تعذيب جسدي أو إهانة أو تشهير. ومثل هذه الأحكام - كهذا الحكم الذي نتحدث عنه هنا - هي أحكام (إصلاحية)، من شأنها توليد حالة من حالات (صحوة الضمير) في نفس (المُعاقب)؛ مما يدفعه - بالتالي - إلى الشعور بلوم الذات؛ الأمر الذي سينتهي به، أو يُؤمّل أن ينتهي به، إلى الإقلاع عن هذه المخالفات في النتيجة. يقول الشيخ عبدالقادر عودة في كتابه الشهير (التشريع الجنائي في الإسلام) عن فلسفة العقوبة في الشريعة الإسلامية ما نصه: (إن تأديب المجرم ليس معناه الانتقام منه، وإنما استصلاحه. والعقوبات، على اختلاف أنواعها، تتفق - كما يقول بعض الفقهاء - في أنها تأديب استصلاح وزجر، يختلف بحسب اختلاف الذنب. والعقوبات إنما شرعت رحمةً من الله بعباده؛ فهي صادرة عن رحمة الخلق وإرادة الإحسان بهم؛ ولهذا ينبغي لمن يعاقب الناس على ذنوبهم أن يقصد بذلك الإحسان إليهم، والرحمة لهم، كما يقصد الوالد تأديب ولده). وإذا كان الشيء بالشيء يُذكر، فقد تذكرت، وأنا أقرأ هذا الحكم المتحضر، الذي يدل بكل المعايير والمقاييس على سعة أفق هذا القاضي وحصافته، ورؤيته لمقتضى إصلاح مجتمعه، وتقويم الاعوجاجات فيه، (القاضيين) اللذين وقعا على بيان الـ61 متطرفاً، والذي وزّعَ فيه (موقعوه) التهم خبط عشواء، وبشكل يندى له جبين القضاء، ويمس حيادية القاضي، واستقلاليته، إلى درجة جِدّ خطيرة، مهما كانت المبررات التي تحصنوا فيها، وتذرعوا بها، وقد كتبت عن هذه الممارسة (المخجلة) في حينه في هذا العمود.. أريدكم - أيها السادة - أن تقارنوا هذا الحكم التربوي والإصلاحي الذي حكم به هذا القاضي المتحضر، مع تلك اللغة المتشنجة والمنفعلة والتخوينية لذلك البيان، الذي وقع عليه القاضيان؛ لتعرفوا الفرق بين الثرى والثريا. ولكن، لله في خلقه شؤون!
|
|
|
| |
|