| |
عبدالرحمن السَّدحان.. و(سيرتُه) - 2 أنور عبدالمجيد الجبرتي
|
|
* كيف وصل إلينا هذا الرجل النبيل والصديق الوفي عبدالرحمن السَّدحان؟ * علماء النفس والاجتماع يقولون لنا: اقرأوا حياة الطفل الصغير تنجلي لكم طبائع الرجل الكبير. * وبعضهم يقول: قدموا لنا رجلاً كبيراً كَهْلاً، وسنستنبط لكم قصة طفولته وتفاصيلها ومشوار رحلتِه وتشعباته. * ومع ذلك ف(سيرة) عبدالرحمن السَّدحان تكاد تكون ثغرة في (نماذج) التنظير الاجتماعي الفردي أو هكذا تبدو لي، ولستُ عالمَ اجتماع إلا أن هذا الشخص الجميل الذي عرفتُه ويعرفه الآخرون، كان يبدو لي دائماً نتاجاً لِسر كبير عميق مبارك رافقه وأظلّه ونقَّاه من شوائِّب الانحرافات والتشوهات الشخصية والسلوكية، ولي في ذلك السر وجهة نظر، سأبديها لكم وأشارككم فيها. * رحلة حزينة مثيرة يكتبها لنا عبدالرحمن السَّدحان في سيرته، ويحاول أن يضفي عليها كل اللباقة واللياقة التي يحتوي عليها ويسعى إلى ألاّّ يخدُش ذكرى عزيز أو قريب، ويسأل الله للجميع الرحمة والغفران. هذا هو أدبُ الرجل الذي نرافقه، يطغى على اندفاع السَّرد ويُلجم تَدُفّق الذاكرة ويخلع على الأحزان القديمة وأصحابها ثياب التسامح وعَبَق المصالحة مع النفس والحياة والآخرين. * يذكر عبدالرحمن السدحان حادثة انفصال والديه وافتراقهما هذه الحادثة كانت الِمفصَل الأهم والمفترق الأخطر، فمن هناك بدأت الرحلة الحزينة والتمزق الكبير.. يقول عبدالرحمن السَّدحان (ولَكمْ سوَّلت نفسي في فترة لاحقة من حياتي لوْ كنتُ وقت (انفصالهما) أعي من أمور الدنيا أحْسَنَهَا أذن لحاولت افتداء (عشّهُما) ولَوْ بحياتي كيْلا يفترقا، ثم أرثُ الشقاء من بعدهما وكان هذا المنعطفُ في حياتهما بداية مرحلة جديدة من عُمري وضعتني لأول مرَّة على صِغَره في مهب الريح). * يتحدث عبدالرحمن عن الشعور باليُتم في أكثر من مكان. ولكنه ليس اليتْم المتعارف عليه حين يفقد الطفل أبويه أو أحدهما بالرحيل عن الحياة، فَيكون في اليأس من اللقاء أَحد الراحتين، ولا يكون بعدَها الا المُضيُّ قدماً فتتقادم الذكرى وتغلق عليها (سحَّارة) قديمة. * لم يكن انفصال الوالدين عند ذلك الطفل الصغير علاقة اجتماعية انتهت بل تحوَّلت إلى ثعثرة نفسية وجودية مستمرة ظللَّت طفولته كلَّها وصنعَت أحداثها ونسجَت أحزانها وكثَّفت (سحائب) ذاكرتها. * بدأ الحياة طفلاً نحيلاً لا يسيغ طعاماً أو يهضمه ولم تنفرج هذه الأزمة المرَضية إلا بعد ثلاث أو أربع سنوات كاد الطفل الصغير فيها أن يذوي أو يختفي. ولكن لم يكن هناك بعد سنوات المرض إلا رحيل مستمر شاق وتناتُر متصل في النفس والزمان والكان. * يرحل الطفل عبدالرحمن إلى مدرسته الابتدائية في الفجر من كل يوم ويقطع عدة كيلومترات ذهاباً وإياباً في طريق وعر موحش يتحاشى فيه (كلْب الطائفي) الشرس فلا يتركه ذلك الكلب اللئيم ويضطر الطفل الوديع البرئ أن يرْمي له قُوت يومه من خُبز أوْدعَه (مخلاتَه) حتى يفتدى سلامتَه. * ويعمل الطفل عبدالرحمن مزارعاً بحفر القنوات ويسقي الزرع ويعمل راعياً يصدرُ مع (الحلاَلْ) فجراً ويعود عند الغروب ويقضي يومَه في منحدر السهول ووعورة الجبالْْ وغياب الرفيق. * وعندما تأخذ الطفل الصغير لوعةُ الشوق إلى الأب الغائب في تُهامة (جيزان) يُلحّ على الرحيل مع قافلة (ابن صالح) ينحدر معها من أعلى عقبة (ضلع) سيراً على الإقدام ثم موثوقاً إلى ظهر بعير يسافر الليل كلَّه ولا ينوخ إلى عند الفجر ولمدة ستة أيام. ويتوهُ في المرحلة الأخيرة في قرية ذات أكواخ خالية إلا من أصوات كلاب ضالة متوحشة. * ويسافر الطفل مرَّة أخرى إلى أبيه في الطائف مُرتحلا سيارة ذات صندوق خشبي قديم ترافقه في الرحلة فتاة مريضة مصابة بطلْق ناري تبحث عن العلاج وجندي هارب مخفور ومُكبّل بالأغلال يلازمه جُنديّ آخر يحرُسُه ولكنه أيضاً مكبل بالصَّمت. * رحيل مستمر في الزمان والمكان وفي أنحاء النفس المتمزقة بين حب الأم العظيم والشوق إلى الأب الغائب وتساؤل مُلحٌ أين الإقامة؟ ومتى تضع القافلة أحمالها؟ وكيف يجتمع الشَّتات؟ وإلى أيَّ قُطْب تتجه (البُوصَلَة) وماذا تحمل الأيام البعيدة والطُّرقات الشاردة في طياتها ومنعطفاتها و(مطَبَّاتها)؟ * أسئلة وجودية كبيرة كانت تتصارع في أعماق الطفل الصغير وكذلك - في أذهاننا - ونحن نتابع هذه (السيرة)... ولكننا - على الأمل - تسألها مطمئنين - لأننا - نعرف - أين انتهت (رحلة) الطفل عبدالرحمن السَّدحان.. بعد عناءٍ كبيرة؟.
|
|
|
| |
|