تستميل العالم الديني مشاعر، وتغمره فِكَرٌ يركب من أجلها مركب الوزن ويشرع قوافيه لترسي إلى عقول القراء جميلة المبنى، سهلة المأخذ، وكثير هم العلماء الذين قلدوا فكرهم، وشاح الوزن والقافية فذاكرة التاريخ ريانة بالأعلام الذين برعوا في الشرع علما، وفي الشعر نظماً فسلسلتهم تمتد من عروة بن أذينة مروراً بالشافعي والإمام ابن حزم لتقف بنا في هذا العصر عند الشيخ أبي عبدالرحمن الظاهري الذي جمع بين العلم الشرعي والفن الشعري حاملاً رداء العبقرية من طرفيها حيث كلل باكورة إنتاجه الشعري بديوان أودع فيه جملة من القصائد قيد فيها شوارد فكره وصيد أدبه ونوادر إبداعه قائلاً:
قصيدتي ابني لها
من شارد الفكر الجموح قافية
قيثارتي ألحانها من عتمة الجهول صافية
لم يكن متعالياً على جمهور قرائه متعمدا غرابة في لغته أو مسيجا معانيه بسجف من الضبابية بل أسرج قوافيه لتواسي الفقراء في شظف عيشهم وفي الوقت ذاته تغير على الطغاة لتزلزل من تحتهم براكين الغضب ذلكم عهد قطعه على نفسه في قوله:
رؤى أليمة وأخرى هانئة
من أجل أن تهز في الجوعى تلاحين السغب
من أجل أن يزلزل الطغاة براكين من الغضب
ذلك الشعر مطية ليحمل ما يختمر في عقله، أو يعتلج في صدره، أو يجول في خلده مطية تحمل آمالا مفزعة مطية تحمل روحا متوثبة جذلة بتباشير صباح الوعي في الأفق، كما تحمل روحا أعيتها نفثات مصدور مشاعر ترجمها في شعره قائلاً:
والشعر في أنغامه
أنشودة أنشودة
للحب والظفر
مطية علوية
للحلم والفكر
والحرف مشبوب الضرم
مواله كل الرؤى
والحرف ياقيثارنا
شريان فكرنا وحلمنا وشريان النغم
لذلك انبرى من واقع ما تمليه عليه أمانة العلم وشرف الكلمة إلى استهجان ظاهرتين أعاقتا مسيرة الشعر نحو هدفه الذي يرومه، فكان المعوق طوفان أخذ يشكل مفاصل الثقافة والفكر مدركاً القصيدة العربية حتى سيرها إلى قطعة صماء نثرية مطلسمة المعاني جوفاء الحروف تحمل في مضمونها غمغمة فكرية تنفر عنها الأسماع وتنبو منها الأذواق، عديمة الجدوى بعد أن فقدت شرط اعتبارها، فالشيخ ابن عقيل الظاهري باح مبدياً امتعاضه عبر قصيدة بعنوان (لمن يصنع القيثار) جاء فيها:
ياللعجب
قيثارنا
شريحة من الخشب
لا عاش جيل الفن والأدب
قصيدة مقروءة
تمجها الأسماع مخنوقا بها النغم
قصيدة مرئية
خرساء أو مخنوقة الحروف أو لا صوت
أو لغة تحت أنين الأرض
لمن تغنى والأولى ليسوا عرب
ليسوا ومن شق النوى عرب
(كلامنا لفظ مفيد كاستقم)
ثم يعرج بعد ذلك على الظاهرة الثانية تلك التي وقفت عثرة في بلوغ الأدب إلى شطآن أهدافه وهي انطوائية الشاعر على ذاته، والارتقاء بروحه إلى عالم المثل، والبعد عن مشاركة أبناء قومه معترك الحياة، وما تنبثق أحداثها عنه من فرح أو ترح تلك الرومانتيكية التي استعبدت الشاعر فصيرته أسير تطلعاته الذاتية بعد أن أغرق هموم أمته في محيطات همومه فيصف ابن عقيل الظاهري واقعه بكل استياء ويذكره بالرسالة المنوطة به في الحياة قائلاً:
يا شاعر الهروب والنغم المحايد
يا شاعر المساء
والليل والقمر
يا راهب الزهور والجداول
يا شاعر الهروب
أعباء أمتي
والشعر كانتفاضة الصقور
والشعر ناقوس الخطر
ما ظل جيل العابثين
وحينما ندلف للقصيدة التي حملت اسم الديوان وهي (معادلات في خرائط الأطلس) نلفها قصيدة ينضوي تحتها عدة قصائد راسماً في تلك القصائد كل حضارة عبرت مسرح التاريخ مستهلاً بالحضارة الإسلامية التي بشرت بها الديانات السماوية ومبينا ما جلبت للبشرية من سمو قيمي ورقي علمي فيقول تحت عنوان (النصف المهجور)
والأرض في بطء تدور
ونصفها المعمور أدنى الأرض غرة الحضارة
طرس السماء العبقري
وسفرها المضيء
لها من الشمس الوضوح والألق
ووقدة الوهج
ومنبع الضياء
تفتحت لها مصاريع السماء
نادى بها موسى وثنى بعده يسوع
بالمصطفى محمد يندي جبينه الأغر بالعبير
أمية تعلمت منها الكتب
وانتقل بعد ذلك إلى الحضارة الغربية (الرأس مالية) فلسط الضوء على خارطة تلك الحضارة على تضاريس نشاز في شكلها عكست واقع تلك الحضارة المادية التي تجردت من معاني الإنسانية فأضحت نفعية تسترق البشر بالاستيلاء على خيراتهم، وتغييب عقولهم ليتسنى لهم السيطرة على إرادة الشعوب ومقدراتهم فترجم تلك المشاعر تحت عنوان (النصف المهجور).
قائلاً:
والأرض في بطء تدور
ونصفها المهجور منفى عابدي الصليب
ضاقت بهم هداية السماء
حضارة سوداء ناعبة
حضارة البنوك والربا
في قاعة المؤامرات تحاك للشعوب والمستضعفين
توصيكم (البيشوف) أعداء السلام
أن تخنقوا الوئام بالقوة البلهاء والدولار يقبر الضمير
ثم يشرع في الحضارة الشيوعية (الاشتراكية) كاشفاً عن معالم خارطتها في أطلس الحضارات مبينا بأنها لا تملك سوى التنظير والفشل في التطبيق والخطب الرنانة بأفكار بائدة فآل بها كر الجديدين إلى انحسار نفوذها وخبو وهجها فتداعت من أطلس الحضارات، ولم يبق منها سوى أطلال بقيت كسراب بقيعة يحسبه الجاهل منجيا له من تخلفه فلايزداد منها إلا خسراناً ووبالا فيقول تحت عنوان (نبوءة لينين)
يا بيضة العنقاء أضنانا المسير
والاشتراكيون ما برحت رؤاهم
مصلوبة في سفر لينين
هذا أوان البعث فليحيا الرغيف
يشقى به العمال والمستضعفون الجائعون الكادحون
في فوهة البركان بركان المنابر
والاشتراكيون ما برحت رؤاهم
قطب الشعار ومحوراً للثائرين
وبعد أن شرق وغرب وطوَّف الأصقاع عبر خارطته الثقافية آب إلى مدينته شقراء، حيث هناك مدرج صباه، وفجر حياته، وربوع طفولته، وبراءته، آب إلى ملهمته الحب والنقاء والوفاء عاد ليجمع ما فرقته الأيام من جميل الذكريات بين أحيائها الهرمة وأزقتها المهجورة وسوابيطها المتجذرة في القدم علها أن تعيد روح الشباب الهارب من حياته إلى غير رجعة مشاعر يجسدها في تلك الأبيات قائلاً: