| |
الميزانية المال العام د. فوزية عبدالله أبوخالد
|
|
تشير بعض الدراسات الاجتماعية والسياسية التي عنيت بتحليل التاريخ الاجتماعي لتأسيس دولة المملكة العربية السعودية ككيان سياسي موحد إلى أنه قد مرت على المملكة العربية السعودية حقب زمنية كانت الميزانية السنوية لمداخيل ومصاريف الدولة ميزانية متواضعة حتى بعد اكتشاف النفط على أرض الجزيرة العربية، فتصدر الميزانية في بنود محدودة، حيث بالكاد تقوم السلطة العليا للبلاد بتوزيعها بين التزاماتها الوطنية الداخلية والخارجية والتزاماتها للأسرة المالكة ولعدد من القوى الاجتماعية النافذة في التركيبة التقليدية للمجتمع بهدف شأف التوترات الاجتماعية وتأليف القلوب لدعم أسباب توحد البلاد في أطواره الأولى. كما تذهب بعض تلك الدراسات سواء ما كتب منها بأقلام مستشرقة أو ما جاء بعضه في سياق تحليلات عربية وسعودية خاصة رسائل الدكتوراه لعدد ممن خريجي طلاب الجامعات الأمريكية من السعوديين في مجال التخصصات المعنية بمثل هذا الموضوع مثل الإدارة والاقتصاد والعلوم السياسية وعلم الاجتماع السياسي بأن بنود الميزانية في مراحل لاحقة لم تكن بأحسن حالاً من ذلك إلا بفوارق نسبية، حيث كانت الميزانية قد لا تتسم بالدقة والوضوح في أوجه مداخيلها ومخارجها، هذا إذا لم تكن في بعض الأحيان تتسم بالغموض وبإغفال ذكر أبواب المصروفات على وجه التحديد. مما كان يضع الأمر برمته على عاتق الدولة فيجعلها المتفرد الوحيد بهاجس الميزانية وقرارها، وبما كان يكاد يخلي المجتمع رجالاً ونساء من مسؤولية الاطلاع على الوارد والصادر المالي ويعفيه من مسؤولية طرح أي مطالب تعنى بتوجيهها/ الميزانية إلى سد حاجات معينة تعني المجتمع في أي وجهة كانت إلا ما تتحسسه فراسة الدولة. ومثل هذا القول مما جاء في تلك التحليلات عن المملكة في علاقته بالميزانية السنوية للدولة يعتبر رحمة إذا ما تمت مقارنته ببعض التحليلات المماثلة والأقسى موضوعية التي كتبت عن دول نفطية أخرى بمنطقة الخليج مما نرى بعضها الآن قد شب عن الطوق المشائخي لدولته وإن حافظت على بعض السمات الرئيسية لهيكلها السياسي التقليدي فأخذت مدنها التي لم تكن تحمل من ملامح التمدن الحضري إلا موقعها على الخريطة تدخل عصر العولمة الاستثماري من أوسع أبوابه مثل دولة الإمارات على سبيل المثال في تحولها نحو أن تصبح مشتى سياحيا للعالم بما فيه العالم الغربي وسوقا دولية استهلاكية زاخرة لتبضع التقنيات ومختلف المقتنيات. حيث مما كتب عن بعض تلك الدول بهذا الصدد إن ميزانياتها من عوائد النفط في مراحل اكتشافه الأولى وإلى مراحل غير بعيدة كانت تعتبر مثل الملكية الشخصية لهذا الحاكم أو ذاك يقوم بتوزيعها يداً بيد ما أمكن على مواطنيه - وقد كانوا على أي حال ذوي حجم سكاني صغير للغاية - بشكل مخصصات وهدايا أو هبات مثلما كان يفعل شيخ القبيلة بالغنيمة. بل إنني قرأت في أحد تلك التحليلات حين كنت طالبة جامعية بأمريكا وعبر دورية شهيرة للبحوث والدراسات ولا أدري ما إذا كان ما قرأته حقيقة واقعة أو مبالغة بأن بعضاً من رموز السلطة في تلك المشايخ بالخليج دون ذكر أسماء كانت في بداية تسلم الريع النفطي ترفض تسلمه من شركات البترول إلا بشكل أموال سائلة، كما كانت ترفض إيداعها في بنك أو وزارة مختصة فيحتفظ بها في (التجوري).على أننا بالعودة إلى ما كتب عن الوضع القديم للميزانية بالمملكة بعد هذه الملاحظة الاستطرادية التي اقتضاها السياق ولعلنا لم نوردها من باب الاحتراز نجد أنه وضع يصعب محاسبته في تلك المراحل التاريخية المبتعدة بمقاييس اليوم.فلم يكن وقتها قد تبلور بعد الجهاز الحكومي ولم تكن الدولة السعودية إلا حديثة عهد على مشروع تأسيس دولة عصرية سواء على مستوى بناء المؤسسات الرسمية أو المؤسسات الأهلية في القطاعات المجتمعية المختلفة. وبالتالي لم يكن هناك أصلاً أي وزارات متخصصة بالمفهوم الحديث لتقسيم العمل.فليس من وزارات للتخطيط أو للعمل أو التعليم العالي أو المهني والتقني وليس من مجالس للمناطق وأخرى للبلديات ولم يشرع بعد في وضع أي من الإستراتيجيات المحددة لسياسات إدارة ريع البترول وفوائضه أو خطط للتنمية الخمسية أو المستدامة. كما لم يكن هناك تعداد سكاني أو دراسات ميدانية إحصائية في التخصصات المختلفة للربط ربطاً علمياً بين المدخول وبين الحجم السكاني والتوزيع الجغرافي المترامي الأطراف للبلاد وبينهما وبين مستلزمات التحديث بما فيها بناء دولة المؤسسات أي (الدولة الوطنية), وتطوير قوى اجتماعية جديدة مشاركة واعية وراغبة وقادرة على الانخراط في البناء الوطني أي تأسيس وتوسيع قاعدة المجتمع المدني لتخير سبل البناء ولتحمل مسؤولياته مع الدولة بما فيها مسؤولية قبول المتابعة والمراجعة والنقد والمحاسبة. أما إذ نوهنا على عجالة بوضع الميزانية لسنوات متتالية من مرحلة الطفرة البترولية بالمملكة نتيجة ارتفاع أسعار البترول بعد قطع ضخه عن الدول الغربية لصالح الحق العربي في حرب رمضان العربية الإسرائيلية/ أكتوبر 73م ووقفة الملك فيصل المشهود له بها في عدد من التحليلات السياسية أيضاً في هذا الشأن فيمكن القول إنه كان من أهم إنجازاتها خاصة من منتصف السبعينيات إلى مطلع الثمانينيات هو التوسع الشعبي الواسع في أعداد المتعلمين نساء ورجالاً. حيث لعبت ما سميت ب(حكومة الكاترة) التي اشتهرت آنذاك دوراً إيجابياً في هذا الاتجاه وفي التوجيه بوضع لبنة تأسيس البنية التحتية للمجتمع من شبكة المواصلات والكهرباء والاتصالات إلى تأسيس قطاع الخدمات الرسمي خاصة في مجال الصحة والتعليم.غير أن الطفرة إذا كانت قد رفعت أناساً (عددا من الفئات الاجتماعية) وخاصة من المستثمرين في القطاع الخاص وذوي المواقع الوظيفية في الدولة، فإنها لم تلبث بلمح البصر أن انحسرت ولم تنس أن تضع أناساً أو على الأقل تنتهي بحالة من الركود الاقتصادي والتنموي عمّت المجتمع وتأثرت بها سلبياً خاصة شرائحه ما دون المتوسطة والفقيرة.فأقصى ما حققته بعض الفئات الأخيرة أن صار لدى المحظوظين منهم منحة أرض عليها قرض للبنك العقاري في منطقة من مناطق الدخل المحدود. وكان انحسار تلك الطفرة المالية في الدخل العام انحساراً طبيعياً لأنها كانت تعتمد اعتماداً كاملاً على الريع النفطي المرتبط بأسعار تلك السلعة المتذبذبة الثمن في السوق العالمي حسب قانون العرض والطلب وحسب الميزان الحراري للحروب أو للاستقرار أو للهوى السياسي للدول صاحبة المصلحة في هذه السلعة. ومن هنا فإن المواطن المتابع منذ صباح الثلاثاء الماضي للأرقام الكبيرة لميزانية الدولة للعام 2007م ولما كتب عنها من تعليقات في الصحف من قبل بعض الكتاب أو المسؤولين بمشاعر يعتريها الزهو لا يمكن إلا أن يلاحظ الفارق النسبي الواسع بين ما يذكره أو يعرفه مما ذكرنا بعضه عن وضع ميزانيات الأمس وبين ميزانية اليوم.والمواطن إذ يثمن ذلك التوجه العقلاني الجميل في توزيع الميزانية لخدمة الحاجات الاجتماعية والمطالب الوطنية في ثلاثة اتجاهات إستراتيجية رئيسة تشمل قطاع الخدمات العام وقطاع البنية الأساسية وقطاع خدمة الدين العام جزئيا فإنه قد لا يملك إلا أن يسأل هل يشهد المجتمع السعودي اليوم طفرة نفطية ثانية؟ وإذا كان الأمر كذلك كما تقترح كثير من التحليلات الاقتصادية والاجتماعية فإن السؤال القلق التالي هو: هل تنتهي الطفرة الثانية بالانحسار -لا سمح الله- كما حدث للطفرة الأولى دون أن نتمكن من بناء قاعدة اقتصادية وطنية لا تكون لقمة سائغة لتذبذب الأسعار العالمية؟ وحينها قد يكون الوضع اصعب لأن كمية كبيرة من البترول المباع اليوم هو من حصة أجيال بعضها لم يولد بعد؛ لذا فلا أقل من أن تستخدم مداخيله في مشروعات بعيدة المدى تصمد لتفتح عينها عليها الأجيال ويكون متاحاً لها أن تستفيد هي أيضاً منها. أما السؤال الذي يشغلني شخصياً في هذه اللحظة وأنا أقرأ من بنود الميزانية حرص القيادة على أن يكون توزيع الميزانية توزيعاً يعنى بإصلاح وضع المواطن معيشياً في جميع الفئات وجميع المناطق وإشراكه في رغيف النفط ليكون له حصة الأسد من التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية الأخرى، وهو قد يكون أسهل من السؤال السابق فإنه سؤال.. ما إجراءات الرقابة والمحاسبة التي يملكها المواطن ليتأكد أن هذه المشروعات التعليمية والصحية خاصة ستوضع موضع التنفيذ الدقيق والأمين والمحدد زمنياً فلا يذهب مال بناء المدارس مثلاً أو تعمير المستشفيات على تزيين البلاط بالرخام والأسقف بالجبس والثريات وما إليه من بعض سوابق غير موفقة في صرف المال العام. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyah@maktoob.com |
|
|
| |
|