هذا مَنْ يكون ولماذا يكون؟
د. عبدالمحسن بن عبدالله التويجري

بعض منا - إن لم يكن أكثرنا - كثيراً ما يسأل باستغراب واستنكار أحياناً، مَنْ هذا؟ ولماذا؟ وهل ينتمي إلى مجتمعنا؟ أم أنه وافد عليه من مكان غريب عجيب؟ والإجابة متى تجاوزت حالة الاستغراب أو الإنكار لا تصعب على أحد منا، فكل مجتمع إنساني يوجد فيه مَنْ هم منكرون لقيمه وعرفه وقبل هذا لدينه.
فهذا من يكنز المال فلا أفاد ولا استفاد، يعبد المال فيستعبده كأن الحياة لا أبعاد لها أو معها، حيث تفرض إدراك أن الرحلة بداية وآخرة، ومتى غادر الدنيا فلا شيء من هذا المال في حوزته أو تحت تصرفه؟ عاد لدنيا الخلود والكل من ورائه لا يذكر له من المحاسن ما يذكر به الصالحون، وحين يذكر الشح يذكر معه، والله يكره الشح حيث المال الحق عز وجل، وقد أوجب صرفه فيما يرضيه.
وآخر استبد به جاهه، وبه يرمم ذاته، لا يحسن أداء مهمة منصبه، ولا هو عون لغيره، بيده تقديم العون لكثير من أهله، فيتشدق بالنظام وهو أبعد ما يكون عن إدراكه، فله نظام خاص به وهو السائد حيث أخذ به الاعتقاد أن هذا المنصب من أملاكه، وبدوامه المنصب يدوم. وهذا كثير ما يُعقّد أمور الآخر؛ فهو في شغل شاغل مع ذاته، تستبد به عقده الذاتية، وقد يكون عديم الاكتراث وبليد الإحساس، يعيش الحياة كما لو كان بمفرده.
وهذا بالرشوة يعتدي على حقوق غيره، فيستولي بمعاونة المرتشي على مصالح الآخر دون حق، منكراً أن الإنسانية تسمو بقدر التزامها بالعدل، فينشر الفساد في المجتمع بعدوانه على دينه وأعرافه وخلقه.
ويسأل أحدنا: مَنْ هذا؟ إنه مروج للسموم، يهربها ويعمل على ترويجها، ويورط شباباً مليئاً بالحيوية، ومحطاً للأمل فيدمنوا، ويبحثوا عن مصدر هذا الإدمان بأي شكل، وبكل الوسائل التي غالباً ما تؤكد انهزام كرامتهم واعتزامهم بنفسهم.
ونسأل: مَنْ هذا؟ هو وسيط امتهن الغرائز وإشباعها بالباطل، وقد يُخدع بعض الشباب والشابات بما تنحرف به غرائزهم، فيقع المحظور مقابل مصلحة مادية أعمت طريقه، فلا دين أو عرف أو خلق بقادر على الحد من شراهته، وانحراف خلقه، وفساد الإنسان بداخله.
وآخر له شهرة مهنية يُتوّجها الجهل بما يزيدها، فيخدع الآخرين من خلال مهنته، أو ما يدعي أنها كذلك، فيسعى وهدفه مال الآخرين مقابل الضرر الذي يلحقه بهم، وبأكثر مما نتصور. ومَنْ هؤلاء المشعوذون باختلاف توجهاتهم؟
ويقول أحدنا إن هذا قد استباح حرمة منزلي، واستولى على بعض ممتلكاتي، فهو من يسعى إلى الغنى بثروة غيره، إنه سارق معتدٍ أثيم. وبعض منهم في سبيل تحقيق مآربه قد يقدم على إيذاء بريء بوسائل متعددة قد تصل إلى القتل.
وربّ الأسرة حين تأمينه لمؤونة منزله، وحين تسوقه يواجه نماذج تثير العجب؛ فهذا بائع لما فسد من مأكل وانتهت صلاحيته، وهذا مُبخس في الميزان، وآخر يدس الفاسد من الأطعمة، وقد غطى السطح بما يخدع المشتري، وآخر يغالط في أسعاره بالعمد والقصد، ولا يكتشف المشتري هذا إلا متأخراً.
وتشكو الأم تأخرَ ابنها في تحصيله، فيذهب الأب إلى المدرسة ليدرك أن وراء هذه المشكلة مدرساً عقَّد الطالب بقسوته وعنفه، وبعثر قدراته، فحل العجز والخوف لدى الطالب، وتدني تحصيله، وهو في طريقه لترك المدرسة والمدرس والتحصيل.
وهذا لا مروءة لديه في كثير من احتياجات الآخرين التي تستقر بها أمورهم، فهو يدير ظهره كأن الحاجة وصاحبها وجود على الهامش بالنسبة إليه، حتى لو كان من أفراد أسرته.
والآخر تعثرت شهامته، فهو رجل قد سقط في حب ذاته بأكثر من حدود المعقول، وتجاهل أن هذه الذات لا تنمو ولا تستقر إلا بتفاعلها مع ذات الآخرين؛ فقد تستغيث به امرأة في عرضها غير أن سمعه وحسه يتعطلان لحظة الاستغاثة، أو أنه من يعطلها، وإن حدث غير ذلك فلا شيء يسعفه من نفسه نحو تلك الاستغاثة، وبالذات من امرأة تُمتَحن في شرفها. وهو أيضاً الذي يجد طفلة على الطريق تناثرت دماؤها على أثر حادث فيمعن النظر بفضول ويكتفي.. دون اكتراث بحياتها أو ما قد يهدد تلك الحياة، فلا شهامة، ولا قلب رحيم، وإحساسه بالمسؤولية الاجتماعية متدنٍّ إن كان له بقية منها.
وعموماً فإن مجتمعاً ينكر هذا، ويرفض مثل هذا السلوك لقادر يوماً ما - بحول الله - على خلاصه وطهارة مكوناته. وانحراف بعضهم وما يؤدي إليه من فساد بل وهلاك لدى الآخرين من أبناء مجتمعه له مظاهر عدة، ويتبع تلك المظاهر حقائق فرضت نفسها، فأفسدت ما أفسدت. وتعداد تلك الانحرافات أو المهالك مما تطول به التفاصيل، وبالإشارة إلى بعض منها، وبالذات الأهم الذي يؤثر على الآخرين لهو بيان للشرور الكامنة في الإنسان التي في كبتها ما يطهر الإنسان ويسمو به إلى الخير ومصادره؛ فمن يبني تعلو يده على يد الهدم والخراب، ومن تعذر عليه جهد البناء وجب ألا يتعذر عليه البعد عن إيذاء المجتمع وإفساد هويته.