| |
مناهجنا وتهمة التطرف د. صالح بن ناصر الشويرخ
|
|
صدر في مصر قبل عدة أيام تقرير يتناول المناهج الدراسية في المدارس المصرية وعلاقتها بالتطرف، مما أثار ضجة كبيرة هناك. وهذا يذكرني بالتقرير الذي أصدره بيت الحرية في الولايات المتحدة الأمريكية الذي تناول المناهج التعليمية في المملكة العربية السعودية، حيث ركز التقرير على بعض المواد الدراسية التي تدرَّس في مراحل التعليم العام وما فيها من مواضع يرى معدو التقرير أنها تحضُّ على الكراهية وتدعو إلى التمييز ومن ثمّ فهي تؤدي إلى التطرف. وبغض النظر عن دقة هذا التقرير (الصادر من بيت الحرية) ومدى موضوعيته ونزاهته، أرى من الواجب علينا عدم إهمال هذا الموضوع، أي مدى علاقة مناهجنا التعليمية بموجات التطرف والغلو والتكفير التي عانينا منها خصوصاً في الفترة الأخيرة، بل من المهم دراسة القضية دراسة علمية مستفيضة وعدم ترك المسألة للتخمينات والتوقعات والتنبؤات التي لا طائل من ورائها. وقد فضّلت تأجيل الحديث عن تقرير بيت الحرية حتى تهدأ النفوس، ولا أكون تحت تأثير محتوى التقرير أثناء الكتابة، وأتحوّل في موقف المدافع عن بلدي وديني وثقافتي، فيؤثر هذا الموقف المدافع في منطقي وقدرتي على التفكير الهادئ، الذي نحن بحاجة إليه للوصول إلى حلول ناجعة لهذه المشكلة الكبرى التي أضرّت بنا وبسمعة ديننا. والآن سأطرح مجموعة من الأسئلة الموجهة لكل فرد سعودي وليست موجهة إلى أي إنسان آخر، فنحن المعنيين بالأمر. هل تهمة التطرف صفة شائعة عند كثير من أبناء الشعب السعودي؟ إذا كان كذلك، فما سبب هذا التطرف أو مصدره؟ هل سبب هذا التطرف (إذا سلّمنا بشيوع التطرف) بالفعل مناهجنا التعليمية؟ هل سبب هذا التطرف هذه المواضع المتناثرة في مناهجنا التعليمية التي ركّز عليها تقرير بيت الحرية؟ هل هذه المواضع المذكورة في التقرير هي بالفعل مصدر تطرف بعض الأشخاص؟ هل هذه المواضع المعدودة المتناثرة قادرة على تحويل إنسان من فرد غير متطرّف إلى فرد متطرّف؟ هل هذه المواضع قادرة على تغيير قناعات المرء وجعله فريسة سهلة لدعاة التكفير؟ وإذا كان هناك عدد كبير من المتطرفين، فلماذا لم يتحوّل هؤلاء إلى إرهابيين؟ ما السبب الذي جعل فئة معينة تتأثر بهذه المواضع دون غيرها من الفئات الأخرى؟ أم أن هذه المواضع في مناهجنا هي بذرة التطرّف الأولى ثم تمّ بعد ذلك تغذيتها وتقويتها بوساطة مصادر أخرى؟ إذا كان الأمر كذلك، فما هي هذه المصادر؟ هل هي المنهج الخفي كما يرى بعض المراقبين؟ إذا كان كذلك، فهذا يعني أن بذرة التطرّف موجودة عند بعض المعلّمين الذين يمارسون المنهج الخفي، إذاً كيف وصل هؤلاء المعلمون إلى هذه الدرجة من التطرّف التي تجعلهم يهملون المنهج الدراسي المقرر ويُخضعون الطلاب إلى مناهج تعليمية خفيّة قد تغذّي التطرّف والغلو؟ إذا لم تكن مناهجنا التعليمية مصدر التطرّف، فما مصدره إذاً؟ هل هناك مصادر أخرى تغذّي التطرّف داخل المدارس؟ أم أن هذه المصادر خارج المدارس؟ هذه الأسئلة وغيرها لم أطرحها للرد على معدّي تقرير بيت الحرية، بل أعددتها لنطرحها على أنفسنا نحن، ونفكّر فيها ونبحث عن إجابات عنها، فهذه الأسئلة بحاجة مُلحة إلى إجابات، لكن يجب ألا تكون إجابات سريعة، بل يجب أن تكون إجابات فيها روية وتأن، لأن هذه الإجابات ليس الهدف منها الرد على هذا التقرير أو غيره من التقارير التي من المتوقع أن تصدر تباعاً في المستقبل، بل الهدف منها معرفة أين الخلل، حتى نسرع في إصلاحه، لمصلحتنا أولاً وقبل كل شيء، فنحن من أشد من تضرّر من التطرّف والإرهاب. إنّ الإجابة عن هذه الأسئلة تحتاج إلى وقفة متأنّية، نحن بحاجة إلى تمحيص مناهجنا التعليمية وإخضاعها لدراسات علمية دقيقة لاكتشاف مواطن الخلل، إذا كان هناك مواطن خلل. نحن بحاجة إلى إخضاع عينات من الأفراد الذين انخرطوا في التنظيمات الإرهابية إلى دراسات علمية مستفيضة، لنرى درجة التطرّف لديهم، وتتبع المصادر التي استقوا منها أفكارهم التكفيرية المتطرفة. نحن بحاجة إلى إخضاع عينات عشوائية من طلاب المدارس ممن لم ينخرطوا في التنظيمات الإرهابية ولا تظهر عليهم علامات التطرف لدراسات متعمقة لنرى مدى تقبلهم للفكر المتطرّف ومدى جاهزيتهم للاقتناع بالأفكار المتطرّفة. نحن بحاجة إلى إخضاع عينات عشوائية من المعلمين لدراسات تفصيلية لنرى ما إذا كان لديهم تطرّف ودرجة هذا التطرّف، ومدى التزام هؤلاء المعلمين بالمنهج المقرّر. نحن كذلك بحاجة إلى إجراء دراسات تجريبية نخضع فيها مجموعات من الطلاب الصغار للمواضع التي قد تكون فيها شبهة في المناهج التعليمية ثم نقارنهم بمجموعات أخرى لم تخضع لهذه المواضع، ونقيس الفروق بين المجموعات التي تمثل الفريق الأول والمجموعات التي تمثل الفريق الثاني، ويمكن أيضاً إخضاع مجموعات مختلفة من الطلاب للتفسيرات المحتملة لهذه المواضع، بحيث تُدرّس هذه المواضع لكل مجموعة بطريقة مختلفة لنرى أثر اختلاف تفسير هذه المواضع في فهم الطلاب وتكوين التوجهات الفكرية لديهم، ولتنفيذ جميع هذه الدراسات والبحوث نحن في أشد الحاجة إلى تصميم مقاييس علمية دقيقة قادرة على قياس درجة التطرّف عند الإنسان، مقاييس مختلفة، بعضها يناسب الصغار وبعضها يناسب الكبار، وبعضها يصلح للذكور وبعضها يصلح للإناث، وغير ذلك. وفي هذا الصدد نُوقشت مؤخراً رسالة دكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حول خطاب دعاة الغلو الاعتقادي في المجتمع السعودي، الذي يرى الباحث أنه لا يمكن مواجهة هذا الخطاب إلا بمنهج دعوي مبني على نتائج الدراسات والبحوث العلمية. إننا بحاجة إلى مزيد من الدراسات والبحوث العلمية في هذا الاتجاه، لأنني على يقين تام بأن مواجهة قضايا التطرّف والإرهاب والنجاح في إيجاد الحلول المناسبة لن يتحقق إلا باتباع المنهج العلمي الموضوعي السليم البعيد عن التعصب والتشنج والحماسة، فما نفعله الآن هو عبارة عن مقالات شجب واستنكار وهجاء للتطرّف والإرهاب. ويجب علينا أن نتحلى بالشجاعة والموضوعية في تقبل نتائج هذه الدراسات مهما كانت تلك النتائج حتى وإن كانت نتائج مؤلمة، فعلاج بعض الأمراض يكون مؤلماً وموجعاً.
|
|
|
| |
|