| |
سقوط بغداد.. بين هلاكو وبوش ياسر بن محمد الغفيلي
|
|
قال أحمد بن واضح الكاتب في كتابه (البلدان): وإنما ابتدأت بالعراق لأنها وسط الدنيا، وسرة الأرض، وذكرت بغداد لأنها وسط العراق، والمدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الأرض ومغاربها، سعة وكبراً وعمارة، وكثرة مياه، وصحة هواء، ولأن سكنها من أصناف الناس، وأهل الأمصار والكور، وانتقل إليها من جميع البلدان القاصية والدانية، وأثرها جميع أهل الآفاق على أوطانهم، فليس من أهل بلد إلا ولهم فيها محلة، ومتجر ومتصرف. فاجتمع بها ما ليس في مدينة في الدنيا... ثم قال واصفاً أهلها: فليس عالم أعلم من عالمهم، ولا أروى من روايتهم، ولا أجدل من متكلمهم، ولا أعرب من نحويهم، ولا أصح من قارئهم، ولا أمهر من متطببهم، ولا أحذق من مغنيهم، ولا ألطف من صانعهم، ولا أكتب من كاتبهم، ولا أبين من منطقهم، ولا أعبد من عابدهم، ولا أورع من زاهدهم، ولا أفقه من حاكمهم، ولا أخطب من خطيبهم، ولا أشعر من شاعرهم، ولا أفتك من ماجنهم. انتهى. وبغداد حين استولى عليها التتار في شهر صفر من عام 656هـ أضحت أثراً بعد عين من جراء جرم نزل بها فسطرت أقلام المؤرخين شيئاً من فضائع التتار عندما عاثوا فيها فساداً وقتلاً وإفساداً، فهذا ابن كثير رحمه الله يصور في كتابه البداية والنهاية صوراً من ذلك فيقول واصفاً الحال: ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقني الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً، بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم. وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة، وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة. فقيل ثمانمائة ألف، وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغت القتلى ألفي ألف نفس. ثم قال: ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فيذهب به إلى مقبرة الخلال، تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى... وقال أيضاً واصفاً الغدر الذي لحق بالخليفة ومن معه ثم عاد فأشار - أي الوزير ابن العلقمي - على الخليفة بالخروج إليه والمثول بين يديه - يقصد هلاكو - لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والصوفية ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا من منزل السلطان هولاكو خان حجبوا عن الخليفة إلا سبعة عشر نفساً، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأنزل الباقون عن مراكبهم ونهبت وقتلوا عن آخرهم، وأما دور ابن العلقمي في ذلك السقوط فهو نفس الدور الذي أداه ويؤديه أحفاده الآن فقال: ولهذا كان أول من برز إلى التتار هو، فخرج بأهله وأصحابه وخدمه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هلاكو خان وأشار إليه بقتل الخليفة؟؟ وقال أيضاً: وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كله عن آراء الوزير ابن العلقمي. ودارت الأيام ومضت السنون مخلفة أجيالاً من البشر على أرض الرافدين ودولاً قامت ثم بادت وسادت ثم فنيت، فإذا نظرنا الآن قلنا بأي شيء نبدأ مأساة أمة تنهب وبلد يحتل وشعب يهجر.. بلاد العراق منها انتشر العلم وساد في الآفاق وبلغت بغداد منها مبلغاً عظيماً وشأواً عالياً.. جامعات ومدارس عظام تخرج منها الآلاف العلماء في كل فن من الفنون.. عاصمة الخلافة ومقر الحكم ومنطلق الجيوش.. بيد أن بغداد اليوم ليست كبغداد الأمس فأنت تراها قد لبست وشاح الحزن وتدثرت بلباس الأسى وأقامت مآتم جماعية على أرواح قتلاها.. في بغداد تزهق الأرواح وتسفك الدماء في مجازر وحشية ومذابح مهولة يقف وراها سفاكون أشرار وقتلة مجرمون... اعتداء على الآمنين في بيوتهم وقتل مروع لأئمة المساجد وأساتذة الجماعات والعلماء وأصحاب الفكر.. صور مرعبة لقتلى أطفال وصرعى من الشيوخ والنساء.. في العراق وفي بغداد على وجه الخصوص تطهير طائفي قل أن يحصل في التأريخ المعاصر.. حرب طائفة مقيتة يقودها ويسعر أوراها ويذكي نارها أحفاد المجوس.. إنه امتداد لثقافة الصفويين والتي ارتبط تأريخها بالسفك والقتل.. هم من عاون وهم من تسلم زمام الأمر وهم من يقف وراء الحدث بكل تفاصيله. بغداد بين السقوطين تلازم كبير وتشابه يصل إلى حد التطابق لا سيما في طريقة السقوط وفي توقيت الهجوم وفي شكل الانهيار وفي نتيجة الحدث. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الرس
K22k3@hotmail.com |
|
|
| |
|