| |
لماذا غابت جامعاتنا عن التصنيف؟ أ. د. عبد المحسن بن وني الضويان
|
|
في العام الماضي صدر تصنيف لأفضل خمسمائة جامعة في العالم، وقد قام بالتصنيف هيئة علمية مستقلة وتصدرت القائمة جامعات أمريكية وأوروبية ويابانية وغيرها، كما أن بعض جامعات الدول الأخرى كانت من ضمن القائمة مثل بعض الجامعات الصينية والماليزية والإسرائيلية. أما الجامعات العربية فلم يظهر لها أثر، كما أن تصنيفاً آخر قد وضع جامعة الملك سعود في وضع متأخر جداً مقارنة بثلاثة آلاف جامعة عالمية، وقد أثار ذلك حفيظة كثير من المهتمين بالتعليم العالي وتساءلوا بشيء من الاستغراب والدهشة بل وحتى المرارة، لماذا غابت جامعات المملكة عن التصنيف؟ والحقيقة أنه تساؤل في محله، ومن حق كل غيور على وطننا العزيز ومستقبل التعليم العالي وما يقدم لطلابنا من تعليم أن يعرف الحقيقة. وأجزم أن مناقشة الموضوع من قبل الجميع هو ظاهرة صحية، وتدل على وعي المواطنين والرغبة الصادقة في تحسين مستوى جامعاتنا، وقد أجاب كثير من المهتمين وغيرهم إجابات مختلفة لكن للأسف كثير منها يتسم بالعاطفة اتهاماً أو دفاعاً، بعضهم مثلا اتهم جهات مختلفة خارج وزارة التعليم العالي والجامعات، وبعضها الآخر اتجه للجامعات ليلقي عليها باللائمة، لكن لم أجد في الإجابات تحليلاً منطقياً يجيب عن التساؤل ويضع الأمور في نصابها، ويحاول أن يحدد الأسباب ويضع الحلول المناسبة في رفع مستوى جامعاتنا لتحتل أماكن متقدمة من التصنيف، وإن كنت أشك أن يقوم فرد بهذا الجهد، فالموضوع يحتاج إلى مجهود جماعي من التمحيص ودراسة مستفيضة متعمقة لذلك. عندما اطلعت على التصنيف استغربت فعلاً عدم وجود مثل جامعة الملك سعود مثلاً وهي الجامعة الأم في المملكة وجامعة متكاملة من حيث التخصصات وأيضاً أين جامعة الملك فهد للبترول والمعادن وجامعة الملك عبد العزيز وغيرها؟ كيف لجامعة بحجم وإمكانات جامعة الملك سعود بألا تظهر في التصنيف؟ جامعة الملك سعود فيها أكثر من ثلاثة آلاف باحث ومساعد باحث وفني، منهم أكثر من ألفين من حملة شهادة الدكتوراة حصلوا عليها من أرقى الجامعات العالمية، بها أكثر من ألف وثمانمائة مختبر ومعمل، هناك أكثر من مائة قسم علمي مختص يمنح شهادة البكالوريوس وأغلبها يمنح شهادة الماجستير، وحوالي أربعين قسماً يمنحون درجة الدكتوراة في مختلف التخصصات الأدبية والتربوية والإدارية والعلمية والهندسية والطبية وغيرها. لديها مكتبة مركزية تضم أكثر من مليون ونصف المليون مصنف. لديها خمسة عشر مركزاً بحثياً تابعا لعمادة البحث العلمي، تصدر تسع مجلات علمية متخصصة، فيها ستة وثلاثون جمعية علمية في كافة التخصصات، وكثير منها تصدر مجلات علمية محكمة في مجال التخصص، يعقد في رحابها عشرات المؤتمرات والندوات والحلقات العلمية والبحثية، ينشر الكثير من أعضاء هيئة التدريس بها أبحاث في مجلات علمية عالمية، ويشارك العديد منهم في مؤتمرات عالمية بأبحاث تحكم وتنشر في سجلات المؤتمرات، حصل كثير منهم على براءات اختراع، الحاسب الآلي متوفر لكل عضو هيئة تدريس مع امكانية الدخول إلى المواقع العلمية العالمية والمكتبات عن طريق الشبكة العنكبوتية. ميزانية الجامعة ضخمة مقارنة بميزانية كثير من الجامعات التي ظهرت في التصنيف، ومع كل هذه الإمكانات لم تظهر جامعة الملك سعود في التصنيف. ويمكن أن يقال الكلام نفسه عن جامعاتنا الأخرى. كأحد أعضاء هيئة التدريس الذي أتشرف بالانتماء إلى جامعة الملك سعود، طالباً ومعيداً وعضو هيئة التدريس مارست العمل في الجامعة محاضراً وباحثاً ومشاركاً في إدارة الجامعة أود أن أدلي بدلوي في مناقشة الموضوع ومحاولة الاجابة عن التساؤل الذي يطرحه الجميع. بداية أحب أن أطمئن القارىء الكريم إلى أن جامعة الملك سعود بخير وليست بالسوء الذي يتخيله بعضهم، ولا أدل على ذلك من كفاءة خريجيها الذين يعملون منذ سنين طويلة في أجهزة الدولة والقطاع الخاص، ونسمع ثناء عطراً عليهم، كما أن مشاركة أعضاء هيئة التدريس في كثير من الدراسات الاستشارية التي يطلبها الجهاز الحكومي أو القطاع الخاص تؤكد كفاءتهم. والدولة- رعاها الله- تتجه لجامعة الملك سعود والجامعات الأخرى طلباً للمشورة وهم محل ثقتها في تولي الكثير من المناصب المرموقة. إذا لماذا لم نر اسم جامعة الملك سعود في التصنيف؟ أعتقد أن ذلك يرجع إلى عوامل يمكن دراستها ومناقشتها والوصول إلى حلول بشأنها. أحد أهم الأسباب التي أدت إلى غياب جامعة الملك سعود عن التصنيف يعود إلى مشكلة التقصير في التعريف بجامعاتنا على المستوى الأكاديمي العالمي من خلال القنوات العلمية المعروفة، فمثلاً الأبحاث التي ينشرها أعضاء هيئة التدريس سنوياً كثيرة، لكنها ليست مفهرسة عالمياً بحيث تجدها على مواقع الأبحاث على الشبكة العنكبوتية، وفي مواقع المكتبات العالمية، كيف للباحث خارج المملكة أن يطلع على بحث نشره عضو هيئة تدريس بجامعة الملك سعود أو غيرها من الجامعات السعودية إذا لم يستطع الوصول إليه بحاسبه الشخصي. إذاً نحن لدينا بضاعة جيدة لكن لا نعرف بها (بتشديد الراء) ينقصنا بعض التسويق، لابد من التعريف بالمستوى العلمي للجميع وخاصة الهيئات العلمية أعتقد بجهد ليس بالكبير وبتكاليف مالية معقولة يمكن جعل الإنتاج العلمي لأعضاء هيئة التدريس في جامعاتنا معروفاً عن طريق فهرست المجلات العلمية. خاصة وأن جهات التصنيف تقول: إنها اعتمدت على الشبكة العنكبوتية فلماذا لا نوفر المعلومات عن الجامعة ونشاطها البحثي على الشبكة. ومن الممكن استضافة الجهات القائمة على التصنيف وإطلاعها على ما لدينا من إنتاج علمي وإمكانات بشرية وفنية وأخذ رأيها في كيفية الطرق التي تقدم فيها جامعاتنا للعالم. نقطة مهمة بهذه المناسبة وهو توجيه جهود أعضاء هيئة التدريس للنشر في مجلات عالمية ذات خصائص إبداعية مثل مجلات العلوم والطبيعة، كما يمكن تشجيع أعضاء هيئة التدريس بجامعاتنا على الدخول في منافسات على الإنتاج العلمي الجيد والحصول على جوائز عالمية. هذا فيما يتعلق بالوضع القائم الذي لا يستدعي تغييراً جوهرياً وإنما إبراز النشاط الأكاديمي والبحثي لقنوات التصنيف العالمية. أما ما يحتاج إلى جهد وعمل متواصل في أقسام كليات الجامعة فهي موضوع الحصول على الاعتماد الأكاديمي لمختلف التخصصات، وتقوم الآن جامعة الملك سعود بجهود حثيثة لإنجاز عملية الاعتماد الذي من ضمن بنوده وكمرحلة أخيرة زيارة هيئات التصنيف للأقسام المعنية للاطلاع عن كثب على إمكانات القسم، ومن ثم الحصول على الاعتماد إذا كان الوضع في القسم يبرر ذلك. في مجال البحث العلمي لابد من الاعتراف بأن الاعتمادات المالية المخصصة من ميزانية الجامعة قليلة مقارنة بحجم الجامعة وميزانيتها، وقد لا تتفهم بعض الجهات مثل وزارة المايلة أهمية البحث العلمي وضرورة زيادة مخصصاته وتبذل الجامعة جهوداً مضنية في هذا الشأن، ولكن قد لا تستطيع الإقناع. أعتقد أنه قد آن الأوان ليكون للقطاع الخاص دور مهم في المشاركة ليس فقط في دعم البحث العلمي مع أهمية ذلك، ولكن لابد من وجود شراكة عمل بين الجامعات والقطاع الخاص تقوم بموجبه الجامعات بتقديم البحوث والدراسات التي يحتاجها القطاع الخاص مقابل تكاليف مجزية تدفع للجامعات تستخدم في دعم البحث العلمي وتجهيز المختبرات ومكافآت الباحثين. العام الماضي عقد مؤتمر الشراكة بين الجامعات والقطاع الخاص بجامعة الملك سعود رعاه خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وافتتحه صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبد العزيز أمير منطقة الرياض، وكان المؤتمر ناجحاً وتوصل فيها المؤتمرون إلى توصيات بشأن الشراكة لا تزال تنتظر التنفيذ. من المهم أيضاً ثقة القطاع الخاص بالجامعات كجهات مؤهلة لتطوير منتجاتها أو لحل المشكلات الفنية التي قد تعترضها بدلاً من التوجه للخارج لهذا الغرض. مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية تساهم في دعم البحث العلمي، ولكن الدعم محدود لم يزد على أربعة وعشرين مليون ريال للجامعات في عام 1426هـ، جامعة الملك سعود سعت هي الأخرى لزيادة دعم البحث العلمي وقد حصلت في نهاية العام الماضي على دعم من صندوق التعليم العالي يزيد على ثلاثة وثلاثين مليون ريال. ولكن كل ذلك لا يكفي. أذكر أنني سألت أحد الأساتذة في جامعة أمريكية مرموقة - جامعة وسكونسون - ماديسون عن مقدار ما تصرف الجامعة على البحث العلمي فذكر بأن المبلغ يتجاوز المائة وعشرين مليون دولار، أي أكثر من أربعمائة وخمسين مليون ريال. لابد من الإشارة إلى عامل آخر يؤثر سلباً على الإنتاج العلمي لأعضاء هيئة التدريس، وقد أظهر ذلك خلال السنوات الماضية ربما منذ ست سنوات أو أكثر قليلاً، وهو انشغال أعضاء هيئة التدريس بالتعليم على حساب البحث العلمي نظراً للزيادة المطردة في أعداد خريجي الثانوية، فقد تحملت جامعة الملك سعود مثل غيرها وربما أكثر زيادة الأعداد. ولم يقابل ذلك زيادة في أعضاء هيئة التدريس، بل على العكس من ذلك فقد ترك الجامعة أعداد كثيرة منهم، إما بالتقاعد أو الإعارة أو النقل للقطاع الخاص، بالإضافة إلى قلة أعداد وظائف المعيدين. استقرار أعضاء هيئة التدريس الوظيفي هام جداً لزيادة الإنتاج العلمي، ويتم ذلك بتطوير الكادر وتحسين الأوضاع المالية لهم، مما يعني استغناء الكثير منهم عن البحث عن ذلك لدى القطاع الخاص، وفي زيارة لخادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - وجه بتشكيل لجنة من وزارة التعليم العالي ووزارة المالية ووزارة الخدمة المدنية لدراسة كادر أعضاء هيئة التدريس وتطويره ونأمل أن يحقق ذلك الهدف المنشود عند إقراره وإخراجه إلى حيز التنفيذ. دراسة وضع الجامعات السعودية وأسباب تخلفها عن التصنيف يجب أن يتم في حوار هادىء تشارك فيه كل الأطراف المعنية وخاصة الجامعات، ولا تحمل جهة معينة لوحدها المسؤولية عن تخلف جامعاتنا، ونكتفي بذلك بل الأهم معالجة الوضع وتحسين المستوى. من المناسب جداً دراسة أنظمة ولوائح الجامعات السعودية وتطويرها بالاستفادة مما هو موجود لدى الجامعات العالمية، كما يجب التأكيد على أهمية استقلال الجامعات وإعطائها المرونة الكافية لتسيير أمورها، وليس من الضروري أن تكون الجامعات نسخاً مكررة بل إن التمايز والاختلاف حتى في الأنظمة أمر محمود. أرى أن ما أثير من شكوك حول مستوى جامعاتنا هو شيء جيد بشرط أن يكون الهدف هو معالجة الوضع والعمل الجاد الدؤوب على إصلاح الخلل أينما وجد، وألا يكون ما نسمعه ردات فعل لا تلبث أن تخبو ونعود لما كنا عليه دون تغيير. وفق الله الجميع لتحقيق الهدف المنشود في تحسين مستوى جامعاتنا والارتقاء بها إلى مصاف الجامعات العالمية في ظل قيادتنا الرشيدة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين- حفظهم الله-. والله من وراء القصد وهو الهادي إلى سواء السبيل.
|
|
|
| |
|