إيجابيات الحروب هي في الواقع ليست من الحقائق الغائبة عند العالم المتحضر، لكننا غيبناها في المجتمعات العربية والإسلامية تحت عوامل الخوف، والضعف، والهلع، والمبالغة في حب الحياة ومتعها، وألصقنا بدعاتها والمروجين لها ألوانا من الأوصاف، وتمظهرنا أمامهم بمظاهر الحكمة، والحنكة، والخبرة، والقدرة على ضبط النفس أمام الأزمات، بل واتخذنا من زهير بن أبي سلمى إماماً لنا، واستشهدنا بحكمه الرائعة حين يقول:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمُ |
وما هو عنها بالحديث المرجّمِ |
متى تبعثوها تبعثوها ذميمة |
فتعرككم عرك الرحى بثفالها |
وتلقح كشافاً ثم تنتج فتتئم |
فتُغلل لكم ما لا تغلُّ لأهلها |
قرىً بالعراقِ من قفيزٍ ودرهمِ |
هذه الثقافة المسالمة، قد لا تصدقون أنها تجد التأييد والتبجيل والثناء عند المعسكر الثاني، وأعني بهم مشعلي الحروب وموقديها، ومثيري الأزمات وصانعيها، لأن نتائجها، من فقر، ويتم، وفاقة، ودمار لا يمس مجتمعاتهم، بل ضحاياها دول العالم الثالث.
* حالة الضعف، والفوضى، والفرقة، والاختلاف الذي دبّ في المجتمعات العربية والإسلامية جعلت المثقفين يسايرون الواقع ويستسلمون له، ويتجاهلون الكم الهائل من شوارد الأشعار والأمثال التي صاحبت الأمجاد السابقة، وواكبت المعارك والجيوش الضاربة، وأذكت في النفوس حب التضحية في سبيل الواجب الديني، والقيمي، والأخلاقي، والوطني، والسياسي.
* كم هائل من الموروثات دونها التاريخ الأدبي، لتبقى أمام الأجيال نبراساً، حين تحيط بهم الشدائد والمحن، وتلم بهم المصائب والنكبات، لكنها تحولت، وتحت ظروف كثيرة ضربا من ضروب الجنون والسفه، ولونا من ألوان الإرهاب والإفساد.
* لم ألتفت إلى هذا الموضوع إلا بعد استعراض كتاب شائق للأستاذ عبدالله مناع بعنوان (شيء من الفكر بين السياسة والأدب)، استجوب فيه الواقع بتحليلاته، حيث يرى أن التغيير والتطوير للإنسان مرتهن لدى فلاسفة الحروب بتحديات الحروب وضروراتها، وإذا كان هناك من يسوق نظرية تجربة آلات الحرب، واختبار قدراتها القتالية في كل معركة تخاض، إلا أنه في الواقع إعادة لبناء الإنسان ذاته، وصقل مواهبه، وإثراء تجاربه، فالحروب تشكل الشخصيات، وتصنع المجتمعات أكثر من أي شيء آخر... والتطور الذي شهدته وسائل الاتصال، ووسائط النقل، وعلوم الكيمياء والرياضيات، والطب والهندسة ما كان ليتحقق لولا الحربين العالميتين المتعاقبتين اللتين دمرتا عشرات المدن، والتهمت البلايين من الدولارات، وأفنت ما يزيد على الخمسين من البشر، وغرست في قلوب البقية الناجية، الهلع، والفزع، والألم. والناس يعتبرون دوافع الحرب وحاجات القتال أكبر من بواعث السلام، ونبضات الدعة والاسترخاء.
* هذه فلسفة - وإن ثبتت صحتها - خطيرة بكل المقاييس الحضارية، أنكرها اليابانيون، لكنهم لم ينكروها إلا بعد أن خاضوا الحروب، وبنوا مجداً آخر مؤثلا، اكتشفوه بعد تلك الأهوال، إذ رأوا أن المجد مرهونٌ بقوة الاقتصاد، وعظمة الابتكار، وجدة الاختراع، فأعلنوا أنه لا وزارة (لحرب) لديهم، فكسبوا الاحترام والحب والتقدير، وجمعوا مدخرات كثير من شعوب الأرض لشعوبهم عن طيب خاطر.
* الشيء المؤكد أن السلام لا يصنع في إطاريه الدولي والإقليمي في الأغلب إلا بقدرة الدولة على الحرب أو منعها، وكيف تصل الدولة إلى هذه المرحلة وما هي الخطوات الصحيحة في هذا الاتجاه.
* نحن أمام تجارب مختلفة كل الاختلاف، لكن تُرى هل استفاد العالم العربي والإسلامي من هذه التجارب؟ وأين هو منها واقعا ومستقبلا؟ ومتى يستطيع تحديد موقفه منها بجلاء؟
(اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وامنحنا منه ما يجعلنا نسود به بسماحة ،وعدالة، ووسطية الإسلام)
|