| |
رداً على طروحات د.حمزة المزيني (1) بل الخواء الفلسفي...! د. عبدالله البريدي
|
|
كتب الدكتور حمزة بن قبلان المزيني مقالاً في صحيفة الوطن بتاريخ 11-10- 1427هـ وضمنه رداً على ما جاء في مقالي عن رؤية الهلال - مطارحة معرفية (إبستمولوجية) والمنشور في جريدة الجزيرة بتاريخ 8-10-1427هـ، وقد اختتم الدكتور حمزة مقاله بكلام جميل للغاية، حيث يقول: (وأخيراً، ألا يوجب علينا تواضعُ رواد العلوم الطبيعية على الرغم من الإنجازات الباهرة التي حققوها أن نتأسى بهم فنكون أكثر تواضعا في التعبير عن آرائنا التي لا يقوم كثير منها على أسس موضوعية؟!)، ولكن قلمه تأبى إلا أن يعكّر ذلك (الجمال اللفظي) حيث اتخذ لمقاله ذاك عنواناً خشناً (الخواء العلمي)! والواقع أنني لم أشته الرد على ما تفضل به الدكتور المزيني لذات الموضوع وهو رؤية الهلال، فهو موضوع جزئي ولا يعنيني قناعته برأيي الخاص حياله، ولكنني قرأت مقاله باعتباره نموذجاً للنسق الأكاديمي التسطيحي الذي يتعامل مع العلم ب(طريقة ميكانيكية) لا تكترث بفلسفته، ولا تأبه بخطورة وضرورة إكمال بناء التأسيس المنهجي والممارسة التطبيقية لفعل التفلسف الإسلامي حول العلم الحديث، حيث يذهب ذلك النموذج السائد لدى جملة من أكاديميينا الأقحاح إلى (وأد التفلسف) و(اغتيال التمنهج) بزعم حماية (جناب العلم)! وأعتقد أنه يجب أن ُنجابه ذلك اللون من الفعل الميكانيكي التسطيحي للعلم لكي نهيء أنفسنا -ومن يأتي بعدنا -لممارسة الفعل الفلسفي المنتج حول مسائل العلم وإشكالياته وجدلياته، فإن كنا لا نطيق كعرب ومسلمين صناعة العلم على الوجه المطلوب لأسباب متعددة، فإنه يسعنا بلا تردد المساهمة في توجيه العلم وتقييمه ونقده فلسفياً، حيث يمنحنا ذلك المسلك قدرة فائقة على اكتشاف أسرار العلم الكبرى فضلاً عن التنبؤ بمساراته المستقبلية واقتحاماته وفتوحاته وإخفاقاته ونجاحاته؛ ومن ثم تحديد المسار الحرج الذي يمكّننا من أن نتموضع جيداً وبشكل ذكي في خارطة الإنتاج العلمي في مختلف العلوم والميادين. نعم، يسعنا ممارسة ذلك، حيث إنه مفتقر لعقول تمتهن التفلسف وتؤمن به، وهذا ما نملكه أو ما يمكننا امتلاكه - على أقل تقدير- كل ذلك في سبيل يوصلنا إلى التحرر الفلسفي من الفكر الغربي المهين الذي يجعلنا (نفكر في آذاننا وليس في رؤوسنا) -وهو معنى مستوحى من عبارة فائقة الذكاء للدكتور عبدالوهاب المسيري، انظر: كتاب فقه التحيز!! والحقيقة أن ذلك مسلك خطير للغاية، يجب الوقوف في وجهه لما له من آثار وخيمة على قدراتنا الذاتية في صناعة العلم ونقده وتقييمه وتصحيحه وتوجيهه وتطويره, وسيظهر ذلك جلياً من خلال المسائل التي سأتعرض لها، معتبراً خطاب الدكتور المزيني نموذجاً لذلك النسق التسطيحي للعلم، مع استخدام غير مبرر ولا مصرح به لسوط العلم ضد مخالفيه دون أن يتعاطى بشكل واع ومباشر للأبعاد المعرفية الفلسفية - الإبستمولوجية - التي سبق لي طرح بعضها كنموذج أو أمثلة؛ كنت أتمنى أن تفلح في إغرائنا في الدخول في مناظرات منهجية فلسفية، نطلب فيها الحق، ونتواضع خلالها للحقيقة وطلابها. المسألة الأولى: الزعم بالاستخفاف بالعلم الحديث. صدر الدكتور المزيني مقاله بالقول: (كانت الحوارات في الصحافة السعودية عن قضية الأهلة مناسبة لظهور نغمة عداء خفية للعلم المعاصر عند بعض المدافعين عن الموقف التقليدي من هذه القضية. وتتخفى هذه النغمة تحت غطاء يتظاهر بالموضوعية التي تستند في زعمها إلى العلم نفسه)، وإزاء مقالي صرح الدكتور بالقول: (ومن الأمثلة الأخرى التي تستخف بالعلوم الطبيعية بطريقة تبدو أكثر حذقا لأنها تزعم أنها تستند إلى ما تقوله العلوم الطبيعية عن نفسها ما كتبه الدكتور عبد الله البريدي)، لست أدري أي نوع من الاستخفاف يعنيه الدكتور المزيني، وقد كتبت في مقالي بالحرف الواحد: (وأخيراًً نعاود التأكيد على أن العلم البشري يتقازم ويتضاءل أمام حقائق الكون وأسراره، فهو لا يطيق وصف كافة ظواهره وخوارقه ولا تفسيرها، كما لا يسعه فك كامل شفراته ولا التنبؤ بجميع ظواهره ولا التحكم بها، فالعلم أشبه ما يكون بطفل صغير يتعلم كل يوم شيئاً جديدا، ويظن حين الصبيحة أنه قد حاز المعرفة والفهم بكل ما تقع عليه عينه ويشمه أنفه وتلمسه يده ويخطر على باله! أنا لست من أنصار الاستهانة بالعلم الحديث أو التقليل من شأن فتوحاته المعرفية المذهلة ونتائجه التجريبية المدهشة، ولكنني في الوقت نفسه لست ممن يذهب إلى تقديس العلم البشري ويتغاضي عن هناته وعيوبه وأخطائه و غبائه ونفاقه، كما أنني لا أطيق السكوت على غروره وتكبره، إذن التوسط هو ما أقصده وأطالب به، فالضمانة الوحيدة لتقدم العلم باقتحامه مجالات جديدة وتصحيح أخطائه هو الاعتراف بقصوره)، ثم لماذا الاتهام ب(نغمة العداء الخفية)، هل ثمة خوف يتملكنا عند الإفصاح عن ما تكنه دواخلنا تجاه قضية فلفسية كهذه، هل ثمة من يخيفنا؟ وهل نتقبل في الحوار والمناظرة جدلاً يتكئ على محاكمة ما ضمر من النوايا السكونية القلبية والتغافل عن ما ظهر من الأقوال الديناميكية الفلسفية؟، هل هنالك حمولة إيدولوجية تسيّّر الحوار في ذلك الاتجاه الملغم بالاتهامات غير المنهجية؟ ثم أليس ما قررته تجاه العلم، هو الرأي السائد أيضاً لدى غالبية فلاسفة العلم الحديث في الفكر الغربي، فنحن لا نهدر العلم، ولكننا لا نستسلم له، بل نستفزه إلى حين وصولنا إلى ما يقرره بعض فلاسفتنا الكبار، كما يشير الآمدي والإيجي إلى أن العلم هو (صفة يحصل بها لنفس المتصف بها حقائق المعاني الكلية حصولاً لا يتطرق إليه احتمال نقيضه)، أو كما يعبر الطوسي بأنه (نوع من الاعتقاد يقتضي سكون النفس). إذن العلم-دكتور حمزة - لا يكون كذلك إلا إذا أخمد الأسئلة الملتهبة في أذهاننا بماء المعرفة، فماذا عسانا أن نعمل حين نكتوي بلهيب أسئلة معرفية لم تطفئها مياه الحسابات الفلكية - كما سيمر معنا بتفصيل لائق - ، إذن على الأقل نقول بأن هذا يبرر لنا أو يسمح لنا باستفزاز ذلك (العلم) وهز فرضياته واختبار نظرياته بجملة من الأسئلة المعرفية، دون أن ُنتهم بعداء خفي له! المسألة الثانية: آثار التعاطي الميكانيكي مع العلم، هذا التخوف الشديد الذي يبديه زميلنا الكريم الدكتور المزيني على العلم بغية المحافظة على (هيبة العلم) وضمان (احترامه) والاحتفاء بمنجزه المدهش، هذا المسلك التسطيحي يفضي إلى (غرور العلم) وانحباسه ضمن أطر منهجية متعالية وميادين معرفية ضيقة، فالأسئلة الفلسفية هي الجواد الذي يجتاز بقوته العلم مفاوز المسائل الجديدة ويقتحم بجسارته حدود المعرفة ويقتلع بسنابكه جذور التقليد والمحاكاة، وهذا ما لا شك فيه ولا ريب في فلسفة العلم. ويذكرني ذلك الخطاب الميكانيكي للدكتور بما انتهجه جملة من الفقهاء الكرام لدينا في فترات سابقة؛ حين عمدوا إلى التعمية على بعض الأقوال الفقهية المحترمة والتغافل عن تبيان ماهية الفقه الإسلامي وحقيقته وجوهره من أجل أن يحافظوا على (هيبة الفقه)، وأحسب أن ما حملهم على ذلك النهج هو الاعتقاد ببساطة عقول (العامة)، بالإضافة إلى الخوف من افتتانهم وعدم احترامهم للفقه الإسلامي أو الفتاوى الإسلامية، حين يقرون ببشرية الفتاوى الفقهية وقداسة النص الشرعي، وهو خوف متوهم، بل ويمثل وصاية للخلق على الخلق لا مبرر لها، وأحسب أن الدكتور المزيني ممن انتقد أو ينتقد نهجاً تسطيحياً كهذا، وفي الاتجاه الآخر يمكننا رؤية مدى التقابل والتقاطع بين مسلك أولئك ونهج الدكتور المزيني، فهو يخشى أن ينال (العامة) من هيبة العلم ويهتكوا حرمته وينسفوا نتائجه، وهذه وصاية لا مبرر لها، فالناس لها عقول تمنعها من السفه في التعاطي مع العلم، إن نحن بيّنا على نحو متوزان موقفنا من العلم وأوضحنا قدر احترامنا له ولنتائجه ووجوب الانصياع لها متى ما كانت يقينية تطفئ لهيب الأسئلة التي تحرق أذهان (العارفين) وتروي ظمأ عقول المشتغلين بها. والأمر الذي بدأنا نشهده من عامة الناس حيال الموقف السابق تجاه الفقه الإسلامي هو أن الأكثرية استشكل عليهم الأمر حين علموا بالأقوال الفقهية الأخرى حول بعض المسائل كصلاة الجماعة والحجاب والأخذ من اللحية وغيرها، بل ذهب البعض إلى حد التشكيك إما بالفقه أو الفقهاء بل وربما الدين نفسه، وهذه كارثة فكرية حقيقية، جاءت كنتيجة حتمية للممارسة لم تخضع لنقد كافٍ في فترات سابقة، ويمكننا عطف القول ذاته على مسألة التعاطي الميكانيكي التسطيحي مع العلم الحديث، حيث يمكننا بسهولة توقع ردة الفعل العنيفة من عامة الناس حين تحدث احتمالية كشف خطأ الحسابات الفلكية برؤية الهلال المتكئة على بعض المعادلات الرياضية، وهذا احتمال لا يمكن لأحد الزعم بارتفاعه وبطلانه، فماذا عسانا نفعل إذ ذاك؟ إذن ما سبق يحيلنا بشكل منطقي انسيابي - كما أحسب - إلى اكتشاف بعض الآثار الخطيرة المترتبة على إبعاد الممارسة الفلسفية للعلم الحديث خاصة مع (الاتهام المعلن) ب(العداء الخفي) له!.. ونكمل بقية المسائل في مقال قادم، والله وحده المستعان.
beraidi2@yahoo.com |
|
|
| |
|