| |
بحر جدة.. أم بحر دير البلح؟ عادل علي جودة
|
|
رحلة عمل حطت بي في أحد الفنادق العالمية في مدينة جدة، عروس البحر الأحمر. كانت الساعة تقارب الحادية عشرة والنصف من مساء الأحد 15-9- 1427هـ الموافق 8-10-2006م، حينما وصلنا (صديقاي وأنا) إلى الفندق بعد أن أدينا العمرة بحمد الله وفضله، دخلنا بهو الفندق متجهين إلى موظف الاستقبال ليستلم كل منا مفتاح غرفته دونما تأخير؛ لأننا في مهمة رسمية وترتيبات الحجز تمت قبل مغادرتنا مدينة الرياض، إلا أن الأمر لم يكن كذلك، بل انتظرنا ما يقارب خمس عشرة دقيقة حتى تم العثور على ثلاث غرف شاغرة موزعة على ثلاثة طوابق، وكانت غرفتي في الطابق السابع وتحمل الرقم (719). على أية حال، لم يكن الأمر مزعجاً كثيراً بالنسبة لي على الأقل؛ إذ استثمرت ذلك الوقت مستعذباً نظافة بهو الفندق وهدوءه وجماليات جدرانه. أعطاني موظف الاستقبال مفتاح غرفتي، وهو عبارة عن بطاقة ممغنطة، وذهبت بصحبة موظف الخدمة إلى المصاعد الكهربائية في أحد أركان البهو، ثم أوقف الموظف عربة الحقائب أمام مصعد كهربائي ذي باب كبير يختص بحركة موظفي الفندق، ورافقني إلى مصاعد أربعة أخرى مجاورة مخصصة للنزلاء فقط، وضغط على زر الصعود وانتظر بقربي حتى فتح باب المصعد، ثم طلب مني الدخول مشيراً إلى أنه سيلحق بي ومعه الحقيبة، دخلت المصعد فإذا بجداره الزجاجي يطل على فضاء البهو لتبدو طوابق الفندق أمام ناظري في غاية الجمال، خرجت من المصعد إلى الطابق السابع، واتبعت اللافتات الإرشادية الواضحة حتى وصلت إلى باب الغرفة ذات الرقم المطلوب، وبسرعة أدخلت البطاقة (المفتاح)، فأضاءت لمبة الباب باللون الأخضر؛ أي أن الباب قد فتح وما عليك إلا أن تدفعه إلى الأمام لتدخل الغرفة، فعلت ذلك لأفاجأ بنزيل الغرفة (وهو غير عربي) ينتفض من فراشه صارخاً متذمراً، فأصبت بحرج كبير، وبسرعة أقفلت الباب بعد أن قدمت له اعتذاري وعبرت له عن أسفي الشديد لهذا الخلل الفادح، وفي الأثناء وصل موظف الخدمة لنعود من جديد إلى موظف الاستقبال في الطابق الأرضي، ولا أخفيك قارئي أنني في تلك اللحظة بدأت أفقد الكثير من هدوئي، فأبديت له انزعاجي، فاعتذر الرجل، ثم بدأت رحلة البحث عن المشكلة، فاتضح أن رقم الغرفة الشاغرة ليس (719) وإنما هو (718)، وهنا رحت في حديث داخلي مؤلم سجلت فيه عتباً لاذعاً على إدارة الفندق رافضاً وبشدة أن يحدث مثل هذا الخطأ في فندق بهذا التصميم وفي هذا الموقع. أخذت مفتاحاً آخر برقم الغرفة الجديدة، ولمّا وصلت باب الغرفة عشت المثل الذي يقوله الإخوة في مصر: (اللي يِتْلِسِعْ مِنْ الشُّرْبَة يُنْفُخْ في الزبادي)؛ إذ لم أجرؤ على فتح الباب رغم أنني طرقته ثلاث مرات، ثم بعد ذلك وصل موظف الخدمة ومعه الحقيبة، أعطيته المفتاح ليفتح الغرفة بنفسه، ففعل، والحمد لله كانت الغرفة شاغرة، فأدخل الرجل الحقيبة، ثم أراد أن يبدد انزعاجي فبدأ يشرح لي تفاصيل الغرفة التي كانت تحفة فنية في دهاناتها ومنافعها وتوزيع أثاثها الفاخر، ثم أشار بيده إلى ستارة كبيرة وقال: (وهناك خلف هذه الستارة توجد شرفة تطل على البحر)، قلت بصوت لم أستطع إخفاءه: (الله.. البحر!)، ثم يبدو أن الرجل قرأ في عينيّ لهفتي لرؤية البحر، فاندفع نحو الستارة، ففتحها، وفتح الباب المؤدي إلى الشرفة، ثم بأدب جم طلب مني الدخول، فشكرته بحب كبير وقلت له: (لا.. بل أقفل الباب والستارة؛ فلمثل هذه المتعة وقت مفضل لدي). وفي اليوم التالي، وقبيل غروب الشمس بساعة تقريباً حان موعدي المفضل لمعانقة البحر؛ ففتحت الستارة، ثم باب الشرفة، واقتربت شيئاً فشيئاً حتى بدا البحر أمامي بسكونه الرائع وكورنيشه الجذاب، وفجأة ارتبكت دقات قلبي، واهتز جسدي، وارتجفت أنفاسي، وأنا أرى بحر دير البلح في فلسطين الحبيبة يرتسم أمامي بوجه حزين يتشح بابتسامة الشوق والحنين وربما الغيرة أيضاً، نظرت إليه بعين العاشق الولهان، ثم استسلمت له منصتاً وهو يعاتبني: ما هذا يا عادل؟ أأغراك بحر جدة، فأنساك إياني؟!.. إن كان هو الأحمر، فأنا الأبيض المتوسط، وإن كان له هذا الكورنيش الصخري بكل هذا الامتداد، فلدى شاطئي الرملي الذي كنت تقيم عليه حلبات هواياتك من مصارعة وملاكمة ولعب الكرة بمختلف أنواعها (طائرة وقدم ومضرب)، وإن كنت قد نسيت فها هم أصدقاؤك وأحباؤك ما زالوا يمارسون كل ذلك، وما زالوا يذكرونك!.. وإن خطف هدوء بحر جدة فؤادك، فلا تنس حالات جزري الكثيرة التي كنت فيها كما البِركة؛ حيث تعلمت السباحة وأنت ابن خمس سنوات! ولا تنس أمواجي العالية التي لم تؤذك قط، بل استقبلت مغازلتك لها وتناغمك معها غطساً وسباحة في رحلة الذهاب إلى العمق، ثم ارتماءً في أحضانها في رحلة العودة، وأنت تشيط معها بصدرك وذراعيك لتحملك مئات الأمتار وصولاً إلى الشاطئ!.. وإن سحرتك الحركة العمرانية التي تطل على بحر جدة، فلا تنس جبالي وتلالي التي علمتك مهارة القفز، ألا تذكر عادل الصغير وهو ينزل الجُرُف مهرولاً سعيداً مبتهجاً، يخلع ملابسه ويقذف بها على شاطئي؛ قطعة هنا وقطعة هناك، ليرمي بجسده في أحضاني؟!.. وإن راق لك منظر الناس وهم يفترشون الكورنيش بجلساتهم استعداداً لتناول طعام الإفطار، فلا تنس خيماتك التي كنت تقيمها على رمال شاطئي لتستقبل فيها ضيوفك وأحباءك الذين لم يتسع لهم بيتك الصغير الذي منحته وكالة غوث اللاجئين لوالديك، رحمهما الله، بعد أن طرد الصهاينة آباءك وأجدادك من أراضيكم عام 1948م!. ولا تنس يا عادل حلمك الذي طالما تمنيته وهو أن تنتقل سباحة عبر مياهي من شاطئي هنا في دير البلح؛ حيث نشأت وترعرعت، إلى شاطئي هناك حيث تطل عليه بلدتك الأم (أسدود) بعد تطهيرها من دنس الاحتلال إن شاء الله!. ثم لا تنس تلك الصباحات الهادئة التي لم تكن تحلو لك المذاكرة فيها إلا سيراً على شاطئي بين (تل العجوة) شمالاً و(العين) جنوباً.. أتذكر كيف كنت تستمتع القراءة وتستعذب مداعبة رمالي ومياهي لقدميك الحافيتين!.. ولا أظنك نسيت منظر مياهي وقت الغروب، تماماً في مثل هذا الوقت، وهي تكتسي بخيوط الشمس الذهبية؛ فيطيب لك حينئذٍ أن أكون أنا حافظ أسرارك، وموثق أحداثك، وملاذ همومك وآلامك!.. وأما النظافة، فالناس في مُخيمك لا حول لهم ولا قوة، ولا أحد يلتفت إليهم، فأصبحتُ مصب مجاريهم، وحاوية قاذوراتهم، ومصيبتي الكبرى ليست في هذا، بل فيما تلقيه داخلي بوارج بني صهيون الحربية وسفنهم التجارية من مخلفات وسموم لوثت مياهي وقتلت أو شردت أسماكي، وما زلت أنتظر أن تخلصوني من ذلك!!. ألا تسمع أذان المغرب يا عادل؟ أقفل باب شرفتك، واذهب إلى طعام إفطارك، ولك سلامي وسلام أحبابك!. أطعت أمر محبوبي وتنهيدتي بعمق لهفتي، وهمست داخلي: (أبداً لم أنسك يا بحر، بل أذكرك وأشتاق إليك وأحن إلى دفء مياهك وحضن رمالك وحلاوة صباحاتك ومساءاتك وكل أوقاتك). أما مصيبتك الكبرى، فنعم؛ علينا أن نخلصك منها!، ولكن آخ يا بحر؛ دع الرفاق يتفقون أولاً أين يوجهون أسلحتهم!.
عضو تجمع الأدباء والكتاب الفلسطينيين - الرياض
aaajoudeh@hotmail.com |
|
|
| |
|