| |
في متاهة التفاصيل..! إبراهيم بن عبد الرحمن التركي
|
|
(1) ** كان (الشيخ محمد عبده) 1849 - 1905م يرى أن (المدنية الحقة) تطابقُ الإسلام، وقارب المفهوم نفسه تلميذه (محمد فريد وجدي) 1878 - 1954م بقوله: إن الإسلام الحقيقي مطابقٌ للمدنية..! ** علّق على هذه الرؤية كثيرون ومنهم: جورج طرابيشي، وفهمي جدعان، وعبد الرزاق عيد، وأعاد الأخيرُ قراءة فكر الشيخ حسن البنّا 1906 - 1949م الذي رأى أن مبادئ الحكم الدستوري القائم على الحرية الشخصية والشورى واستمداد السلطة من الأمة ومسؤولية الحاكم أمام الشعب تنطبق كل الانطباق على تعاليم الإسلام ونظمه وقواعده، وفي نظر (عيد) مثَّل (سيد قطب 1906 - 1966م) انعطافاً انقلابياً في الفكر الإسلامي الإصلاحي عبر أطروحته عن (الحاكمية) التي هي أخصّ خصائص الألوهيّة ثم يتم الاعتداءُ عليها إذ تسندُ إلى البشر فيحق لهم وضع التصورات والقيم والشرائع والأنظمة والأوضاع.. (أزمة التنوير.. د.عبد الرزاق عيد - ص42 - مركز الإنماء الحضاري ط/الثانية 2005م) (2) ** لتكنْ هذه مقدمةً ننعتقُ بعدها من الطّرح الفكري المجرد إلى الأرضية المحسوسة الملموسة؛ فحين كنا في مدارج الطلب الأولى كان في موضوعات (الإنشاء) أو (التعبير) نصُّ (الرصافي) ومنه: يقولون في الإسلام ظلماً بأنه يصُدُّ ذويه عن طريقِ التقدمِ ** وكنّا نلقن في عناصر الموضوع: أن الإسلام دينُ الحياة، وبه وحده يجيءُ التطوّر والتحضّر، ويُؤكَّد لنا - في كل مقام - أن لا رجال دين في الإسلام بل علماءُ يخدمونه، ولا فرق بين عالم فقه وتوحيد وحديث وعالم ذرةٍ وفلك وهندسة واقتصاد، ولا نزال مؤمنين أن الدينَ لا يتأطرُ بشكلٍ، وحين سُئل أحد المشايخ الراحلين (وهو الشيخ عبد الرحمن الدوسري) في ندوة عامة عن هذا (السيد قطب) الذي يحلقُ لحيته كانت إجابته الإنكارية الحاسمة - كما رُويت - : أحدثكم عن شُعوره وتستفهمون عن شَعره..؟! ** وسواءٌ أصحت بهذا الوصف أم لم تصح ؛ فإننا - طُلابَ المعاهد العلمية الذين وُجهوا عبر الفكر الإخواني - لم نعهد - في معلمينا وزائرينا المحاضرين ومنهم: الشيخ الدوسري، وسعيد حوّى، ومحمد محمود الصواف وغيرهُم - منْ أشار إلى شكل أو هيئة، أو حاول حصر الإسلام بإسبال وإعفاءٍ وموسيقى، وكان فينا من يطيل شعره، ويمدُّ سوالفه، ونتبادل كلمات الأغاني (وبالأخص ما يكون على شكل قصائد لأم كلثوم ونجاة وفايزة أحمد)، وربما كتبنا بعضها على السبورة، ولم نشهدْ تظاهراتٍ وعظيّة في معهدٍ ديني لن يُلام من علا صوتُه بتوجيه أو حتّى بإنكار ..! ** روايةُ وقائع لا مجال فيها لتصويبٍ أو تخطئة؛ فكهذا نشأْنا أو أريد لنا أن ننشأ، ولم تقمْ - في دواخلنا - تناقضات الواقع والمفترض، ولم يتوجهْ واحدٌ منا لينصح أباه أو يُعلِّم أمه أو يُعنِّف إخوتَه لأن فيهم من يرتكبُ إثم أغانٍ يسمعُها أو لحيةٍ يحلِقها أو ثوب يطيله..! (3) ** دارت الدنيا؛ فإذا الزمان يلدُ رجاله بل أطفاله، وإذا أبناؤنا يحملون إلينا ثقافة الكاسيت، وإذا هم شفيقون بنا، لا من تقصير في ركن بل من قصور في الفهم(!)؛ فالمعلم أو المعلمة عرف أن في ذويهم منْ تستهويه أغنية أو يطيبُ له شكل، فأفهما الصغار أن هذا الفعل محرّمٌ بالإجماع وقد يلقي بصاحبه إلى التهلكة..! ** كان الطفل يعاني من تناقض ما يسمعه مع ما يراه، وكان دور البيت تقديم ثقافة موازيةٍ متوازنة، تُعرِّف بالركن والواجب والمحرم والمكروه والمندوب والمُباح، واضطر نفر إلى توعيتهم بفكر الاختلاف، وأقرأوهم - وهم الصغار - كتاب (الحلال والحرام في الإسلام) للقرضاوي، و(السنة بين أهل الفقه والحديث) للغزالي ليعرفوا أن ما حَرُم عند أولئك حل لدى هؤلاء، وأن ما وجب لدى نفر نُدب لدى آخرين، وأن الدين متين والأثر يحث على الإيغال فيه برفق، وأن قد (هلك المتنطعون..)..! (4) ** يجيءُ جماعُ هذه القضية في استئثار بعض المفتين وطلابهم برأي يفرضونه ولا يبدون اختلاف الأقوال حوله مع حقِّهم في ترجيح ما يصل إليه اجتهادهُم أو اتّباعهم..! ** نرى هذا في مسائل شكلية وتعبديّة كالموسيقى وحلق اللّحية وإطالة الثوب ودخول الوجه واليدين في حجاب المرأة، وصلاة الجماعة، وزكاة الفطر من المال، والرمي في الليل، والاقتداء برأي علماء الفلك في الهلال ونحوها مما ظهرت فيه آراء متباينةٌ لعلماء ثقاتٍ، ومنها ما يُصادم ما درجَ عليه بعضُ علماء هذه البلاد، ليبقى السؤالُ المشروع: ما الذي يمنعُ إبداءَ الاختلافات عند بسط الإجابات وترجيح ما يراه طالب العلم وما يدينُ الله به..؟ وهل يجوزُ الجزمُ بالحرمة أو الوجوب في قضيّة خلافية..؟ وما هي نهاية الاتكاء على باب سد الذرائع الذي لو طُبِّق بتوسع في الحياة العامة لما وجد فينا من يسير على قدميه ومن يستقل سيارته أو يركب طائرة وباخرة أو حتى جملاً..؟! (5) ** أشار باحثون إلى أن الفتاوى التي تصدر في هذا الزمن (والمقصود منذ حركة جهيمان أو قبلها بقليل) تعادل ما صدر من فتاوى طيلة التاريخ الإسلامي في كل عصوره، وربما جاء مردُّ هذه الظاهرة إلى غلبة علماء الحديث من جانب، وإلى التداخلات السياسية / الاجتماعية التي صَدَّرت إلى الواجهة بعض الجماعات المعنية بإعادة الدين إلى مرحلة العناية بالأمور الشخصية وإقصائه عن الحياة العامة مما يناقضُ كون الإسلام ديناً شاملاً ينظم حياة الفرد والجماعة والمجتمع والدولة والأنظمة السياسية والاقتصادية، وكأنهم - بسيطرتهم - ينزعون من الإسلام جانبه المدني/ الحضاري/ التقني لتعود المواجهةٌ بين ثلاثي (الشيخ) و(التقني) و(الليبرالي) مثلما فصّلها (عبد الله العروي) في كتابه (الأيديولوجية العربية المعاصرة).. وربما زادت طرفاً رابعاً وهو (الشيخ) الذي يتصادم مع شيخٍ مثله لنجد نمطين مختلفين من الفكر داخل المؤسسة الدينية التي يفترض أن تكون واحدة أو موحدة، وهي كذلك لو اكتفت بالاتفاق على الأصول..! ** والخاتمةُ التي لم نصل إليها تحسب التِّيه في تفاصيل القضايا وتفاصيل التفاصيل التي غرقت وتغرقُ فيها التنظيمات والأدلجات والمؤسسات التي تتفق - مثلاً - على (أركان الإسلام والإيمان) ثم تنشغل بلجاجٍ جانبيّ حول الفروع وفروعِها مما تسعه التعددية.. ولعل المثل الغربي الذائع لم يعدُ الحقيقة حين قال: إن الشيطان يمكنُ في التفاصيل..! * التيه متاهات..!
E:Mail: IBRTURKIA@Hotmail.com |
|
|
| |
|