| |
رجل الأيام الصعبة عبير عبد الرحمن البكر
|
|
تمتمت.. وأسكنت داخل أضلعي.. صوتاً صاعقاً (قرب الموت.. وعلقت قناديل الفرح!) لا تفتأ تلك العجوز المسنّة إلا أن تردد هذه العبارة المميتة!! ويضيء استفهام.. هل نحن نطلب الموت..؟؟ حروف ينتثر فيها سخط.. وكلمات يموت فيها نبض..!! لم تطلب المسنّة الموت..!! في أقصى جبال بني مالك.. اعتصمت السيدة (حليمة) بالجبال وقد أعطتها حدة وصلابة.. في حدود قريتنا التي لا نراها إلا في العطل والإجازات السنوية.. تزين منزلها وترش حدائق الكادي والريحان وتستقبل من نزحوا لقضاء صيفهم في قريتنا..!! تستقبلهم كأن ما بقي لها غائب سيؤوب.. وكأن (صالح) ابنها قد عاد.. وما له بدروب العودة ميعاد.. ربت صالح.. عاشت كدر أيامها من أجل أن يسعد صالح.. أن يكون صالح رجل الأيام الصعبة.. وتزوج صالح من (أزهار) ابنة الجيران التي تسلَّقت أسوار قلبه.. وتناقلنا حباً عذرياً وعشنا معها لذة الوصل.. أخذ صالح كثيراً من صلابة (حليمة) وهي تعترض.. وهي تناقش.. وهي تناضل.. قلب صالح الذي غار في شباك صيد أزهار.. حتى تزوج صالح وغازلته المدينة وباعد حتى استقر به المقام في العاصمة آلاف الأميال.. أخذت صالح وأسعدت أزهار وتركت (حليمة) تستعيد حلماً قديماً أن يكون صالح سيد الرجال.. جادت به أيام وصل مع (فالح) والد صالح، ومات الأب وترك إرثاً من الألم وفقراً من المشاعر إلا من صالح، وحلماً تنسجه الأم في حضور صالح.. وبقيت (حليمة) تنتظر إطلالة.. يجود بها صالح في عطل قصيرة.. حتى بات الألم وعلت أزهار تبذر الخواء.. أزهار تعلن الجفاء.. ترفض (حليمة) تعتصم بالجبل.. ويجلجل صوتها عالياً.. مات صالح.. وما مات صالح إلا أنه مات بحضوره أعواماً.. تأكل كل شيء حتى المشاعر المورقة.. أعوام تغيب ملامح صالح خلف ركام القطيعة ل(حليمة) أمه....!! وحليمة تتوكأ على عصا الأيام وتغيب في وجع السنين ومرارة هرمها وهي وحيدة.. تطل الأمراض وأدواء الشيخوخة وهي وحيدة تنتظر إطلالة رجل الأيام الصعبة.. وما يعود..!! مرض هاجم.. رداء يعبث بتماسكها.. تئن وجعاً.. يجتمع الجيران وتنفذ أناتها الحزينة.. تنطق بصالح الغائب المجهول..!! لا أحد يعرف له درباً.. ولا أحد يصل لمسافات بعيدة غادرها عن أمه المسكينة.. حضور يصنع حضوراً.. وغياب يقترف إثم حضور.. ليظهر صالح.. يجب أن يعود.. كلمات تخترق مدى غرفة بائسة تسكنها (حليمة) وأمراضها.. وشيخوختها ووهنها وضعفها.. حتى تصل الأسماء الأسماء.. ويكون لصالح حضور مفاجئ.. (حليمة) به تفرح.. وله تبتسم.. ومعه تقص حكاية انتظار رجل الأيام الصعبة.. يبكي.. يتألم.. يحصد عند أرجلها ثمار المرارة ويمطرها بتوسلات الأسى.. أن تغادر معه.. ومعه تلين عرائك العصم.. وله تذوب مقاليد القوة ومن أجله تلم متاع المرض وآفة الوحدة وتغادر.. إلى حيث هو كان بها يفرح ومعها يبتسم.. وتذيع روائح أزهار خصاماً.. وفرقة..!! لا أحد يرحم شيخوخة (حليمة) في أروقة انتظار مرّ للمستشفى القاتل ماذا يقولون.. وماذا ترى يقررون؟.. لكنها تخرج من هيبة الأطباء من تقولاتهم وإقرارهم.. من حضورهم البائس إلى أنها ستموت.. وفي الموت لها راحة ما بين عقوق صالح.. وتسلط أزهار.. ما بين شموخ الجبال في القرية الصغيرة.. وما بين انكسار حليمة ما بين كل ذلك.. جمع صغير للأسرة يشد أزر حليمة.. ففي الغد تنزل ضيفة على أروقة المستشفى (لتزيل حصوة بالكلى).. عملية صغيرة.. وتعود لتمارس حياتها.. لكنها تظن أن في العملية موتها.. لا خوف من الموت وأن الانتظار أليم له.. فقد مات رجل الأيام الصعبة.. فما طعم الحياة.. قرب الموت وعلقت (قناديل الفرح) عبارة أليمة.. علقت أسى العقوق.. طويلاً في أسماعنا الموجعة.. بواقع أليم..!!
abeeralbaker@maktoob.com |
|
|
| |
|