عرفت الشاعر غريب الأطوار (عثمان بن سيار المحارب) في عنفوان شبابه، منذ أن بلغ أشدّه، وبلغ أربعين سنة، وها أنذا أتذكّره في التسعينات من عمره المديد، والثمانينات تحوج السمع إلى ترجمان، وظنِّي به يردِّد مقولة لبيد:
ولقد سئمت من الحياة وطولها |
كانت معرفتي الأولى به عندما صدر كتاب (شعراء نجد المعاصرون) عام 1380هـ، للأستاذ عبد الله بن إدريس، حيث ترجم له، وساق أطرافاً من شعره، ووصف شعره وشاعريته وصفاً انطباعياً، يصدق على ما سلف منه، فهو عنده شاعر قومي، يترسّم خطى (الجواهري) و(القروي) حتى أنّ قوميّته - على حدِّ قوله - حملته على المحافظة على شكل القصيدة العربية في مطلع حياته، وأحسبه قد تحوّل عن ذلك كلّه فيما استقبل من سنوات.
وعرفته أكثر قبل ثلاثة عقود حين أنجزت رسالة (الماجستير) (اتجاهات الشعر المعاصر في نجد)، ويومها لم يكن بين يديّ إلاّ ما أوجزه (ابن إدريس) وما تفرّق في الصحف والمجلات من قصائد عابرة.
وقبل عقدين ونيِّف عدت إليه بمنهجية جديدة وآلية دقيقة، حين أعددت رسالة (الدكتوراه) (النزعة الإسلامية في الشعر السعودي المعاصر) وكان قد صدر له ديوانان أسهما في إبراز أبعاده الدلالية والفنية، ثم انقطعت عنه أو انقطع هو عن الكافة، فلم أعد أسمع عنه شيئاً، ولم يعد له أيّ حضور يُذكر في كافة المحافل الأدبية، ولا أحسبه قد هجر الشعر كما فعل غيره، ولكنه هجر المشاهد، فهل صدمه الواقع؟ أو أنّه صدم الواقع فانفضّ سامره؟.
أعرف جيداً أنّه غرّد خارج السِّرب في اتجاهاته كلها، وهو حين لا يتناغم مع الصوت الجمعي يكون كقاصية الغنم.
وشاعر عنف في شعره الوطني، ثم أسرف في شعره الغزلي يكون قاب قوسين من الاغتراب، ولا سيما أنّه ربيب تراث سلفي شديد الحساسية، وعلى الرغم من تطرُّفه في الحالين، فإنّ اعتزاله المغاضب يُعد خسارة لا تعوّض، إذ ابتلعه حوت النسيان وبخاصة حين يهبط مثله إلى السفح، لتكون القمم مسرحاً لبغاث الطير التي تزاحم النسور بالمخلب الغضِّ والجناح القصير، كما يقول (أبو ريشة) في رثائيته لأمجاده وما أكثر الشعراء الذين رثوا أنفسهم ذاتاً وفناً. نجد ذلك عند (ابن الريب) في رثاء الذات، كما نجده عند (البحتري) في رثاء المحتد الشعري في (السينية) وعند (المتنبي) في (داليته) حين يصف نفسه الشاعرة بأنّه الصائح المحكي والآخر الصدى، وعند (أبي ريشة) في عصمائه (النسر)، ولم أجد لشاعرنا رثائية ذاتية يودع فيها ناسه المعجبين به، ولعلّ ذلك من شعره الحبيس الذي يتململ في قمقمه.
أمّا انطواؤه واعتزاله فقد جسَّدته قصيدته المتواضعة (رضيت بما بي) وهي قصيدة يردُّ بها على صديق عذله في انطوائه.
ولأنّ حياة أي شاعر تمثِّل محطات متعدِّدة التيارات والاتجاهات والنزعات، فإنّ معرفتي به في أوائل محطاته المثيرة، إذْ كان فيها صاحب قضية ينافح عنها بعنف، ويلوم قومه على ضعفهم وهوانهم على الناس، ولكنه حين يئس من الصحوة والاستبانة وقبول النصح نبذ شعره العنيف إلى شعر أعنف، شعر الحب والتولُّه.
وإذْ تحفّظ أناسٌ على عنفه القومي فقد تحفّظ آخرون على اندفاعه وراء المرأة.
ولم أكن أعرف - فيما بعد - ما إذا كانت له أعمال جديدة، وهل عاد إلى صلفه القومي أم ظلّ نزارياً كما كان يوم أن بارح المشهد الشعري؟ ولقد وجدت نتفاً له وعنه في (موسوعة الأدب العربي السعودي الحديث) وهي التي أشارت إلى عمل شعري ثالث لم أره، وهو ديوان (بين فجر وغسق) وهل حوى ما أحدث من شعر أم هو تقصٍّ لشعر قديم لم يفرج عنه إلاّ في آخره. وأذكر أنّني قرأت ديوانيه (ترانيم واله) و(إنّه الحب) عند التحضير للدكتوراه، وعندي مسودة لم تكتمل عن تحوُّله المفاجئ والعنيف من البعد الوطني إلى الحب العذري. وإلمامة الموسوعة عن شعره وشاعريته إشارات موجزة، ولقد سمعت أنّ بعض الدارسين أو الدارسات اتخذوه موضوعاً لرسالة أكاديمية، وأذكر أنّ طائفة من الطلاب استشاروني في إمكانية دراسة شعره، وقد شجّعت على ذلك، فهو شاعر يستحق الاحتفاء، وبخاصة في بواكير شعره، فهو مشروع شاعر مثير، ولا تأثير لغيابه الطارئ متى أمكن الوصول إلى وثائقه.
لقد صدر ديوانه الأول عام 1977م فيما صدر ديوانه الثاني عام 1402هـ، ولست أعرف عن ديوانه الثالث الذي أشارت إليه الموسوعة متى صدر وما مضامين قصائده، وهل هي من قديم شعره أم مما جدّ بعد اغترابه؟.
وتألُّقه توقَّف قبل إصدار مجموعاته الشعرية، وهو توقُّفٌ فرضه على نفسه، ولم يفرضه عليه أحد من الناس.
والذي يقرأ بواكير شعره يحس أنّه أمام شاعر فحل، يمتلك عدّة نواصٍ، ناصية اللغة وناصية الخيال وناصية العمق الثقافي والوعي المبكر بواقع الأُمّة العربية. غير أنّ هذا الشهاب الذي انطلق في صعوده كاد يحور رماداً بعد إذْ هو ساطع، والفحولة مصطلح شعري لا يوصف به شاعر إلاّ إذا استكمل مقتضيات الفحولة ولقد تقصّاها بعض الدارسين في كتاب ضاع في ثنايا كتبي. وتساؤلي المُلِح: من الذي أطفأ هذا الشهاب الملتهب؟ ومن الذي حمله على مبارحة المشهد في وقت مبكر؟ وهو الشاعر الذي يهزّ العواطف، ويذكي المشاعر، ويحرِّك كوامن الوجدان بشعر مقاوم، ينضح أسى ومرارة. أعرف جيداً أنّه بعنفه في القوميات أثار دعاة الوحدة الإسلامية، وبملاحقته للغانيات أثار الورعين. وإذا كان رقيق المشاعر فإنّه لم يحتمّل ردود الأفعال، ولربما يكون ذلك بعض الأسباب المؤدِّية إلى الغياب، ومن بواكير قوله:
واحملوا المشعل في ليل سراها |
من تراب الجهل والجبن براها |
أيقظوا فيها شباباً خاملاً |
هام في بيداء لا يدري مداها |
وهذا شعر جزل في العبارة، قوي الأسر، عميق الدلالة، لا نكاد نسمع بمثله، ولكنه شعر شاعر اعتزل قومه وما يقولون. ولم أكن أعرف بعد انقطاعه ما إذا كان على صلة بالأدب والشعر وبالمشاهد الأدبية. لقد بارح المشاهد كلّها، ولم أكد أذكره لولا أن ذكّرتني به (الثقافية) وهي الحريصة على أن تعيد الهاربين من مفازاتهم، وأن تبعث ذكر الأموات من أجداثهم، وإنّه لمن المؤسف، أن تخلو المشاهد من شاعر متميِّز (كابن سيار) في وقت الانكسار العربي وثقافة الخوف، ولم أكن وحدي الذي ودّعه ونسيه، فكلُّ من لاقيت يشكو هذا الغياب، فلذا كان آخر عهدي به يوم أن فرغت من رسالتي للدكتوراه، وكنت إذْ ذاك أنقب في شعره عن الحس الإسلامي، وكانت نزعته تراوح بين الوطنية والحب العذري. ولقد أشرت إلى ذلك حين قلت: (والشاعر عثمان بن سيار رغم ندرة إسهاماته وطول مكثه في رحاب الحب والمحبين يملُّ واقع الأُمّة ويضيق بالقعود ويستريب من هذه الفرقة المستحكمة والشقاق المستشري فيوسع المثاليين لوماً وتعنيفاً)، وهو كذلك في كلِّ شعره الوطني والسياسي والقومي، غير أنّه تحوَّل فجأة إلى الحب. وحين نصفه بالقومية فإنّنا لا نمضي به إلى حيث قوميات (المتأدلجين) الذين ينبذون الإسلام وراء ظهورهم، كما يفعل بعض القوميين العرب، وبخاصة النصارى منهم، وإنّما نقصد ذلك الشعر العربي الناسل من عباءة الإسلام لغة وفكراً، والشاعر في هذا اللون من الشعر يبدو قاسي العبارة محتدم المشاعر. لقد تحدّث عن (القدس) كما تحدّث غيره، ولكنه اتخذ شكلاً تعبيرياً يختلف كثيراً عما يسلكه الشعراء من حوله، يقول في هذا الشأن:
أضاعوها وقالوا القدس ضاعت |
وهو كذلك في سائر شعره القومي يلوم ويقسو في اللوم، ويعاتب ويعنف في العتاب، ولا يكاد يرسم طريق الخلاص إلاّ بعد أن يجهز على المتخاذلين، وظاهرة العنف والتمرُّد واكبت شعراء المرحلة التي واكبت الثورات العربية، وكثير منهم أصيب بخيبة الأمل، فهرب من المشهد الشعري لا يلوي على شيء ذي بال إلاّ على حزن عميق، ومرض مصمٍ، وآهات دفينة.
وديوانه (ترانيم واله) وما تلاه من أعمال شعرية تذكِّرني بطائفة من شعراء التولُّه، لا أقول النزاريين، ولكنني لو قلتها لما أبعدت النجعة، والترانيم والتراتيل والنداء وكافة الصوتيات دأب الشعراء الغزليين، فالشاعر (علي محمد صيقل) له ديوان (ترانيم على الشاطئ) وهو شعر خليط، ولكنه مشبع بالمناجاة الوالهة، والشاعر الصديق (عبد العزيز بن محمد النقيدان) له ديوان (ترانيم الرمال) الذي سعدت بتقديمه للقراء، والشاعرة (عزة رشاد) شاعرة مصرية مقيمة في البلاد لها ديوان (ترانيم قلب) سعدت أيضاً بتقديمه للقراء، والشاعر (عبد السلام هاشم حافظ) - رحمه الله - له ديوان (ترانيم الصباح) والشاعر العميد محمد نصير له (ترانيم السمر)، ولعلّ من أبرز هؤلاء جميعاً الشاعر الصديق (محمد عيد الخطراوي) في ديوان (ترانيم الصباح) وكأنِّي به يلتقي مع شاعر بلده (عبد السلام حافظ) مع الفارق بين الاثنين. وكلُّ شعراء الحب والتولُّه يحلو لهم أن يترنّموا، وأن يكون شعرهم صوتاً ندياً.
لقد كان ابن سيار مشروع شاعر، لا يقلُّ عن سائر الشعراء الذين كانوا حداةً للقوميات العربية، ولكنّه رفع قلمه وطوى صفحته، وترك المشاهد لشداتها الذين لا يحرِّكون ساكناً، فهل يعود بعد هذا الهجر، ويستجيب لنداء قومه؟ أم أنّه سيقول كما قال سلفه:
(أضاعوني وأيّ فتى أضاعوا)
نحن أحوج ما نكون إلى مثله ليوم الكريهة وسداد الثغور، فهل يستجيب؟ أرجو ذلك.
|