| |
مملكة الإنسانية بعيون صينية غالب فريد البناء
|
|
كاتب هذه السطور ليس كاتباً صحفياً مرموقاً، ولا علماً من أعلام القلم، بل لا يقرأ في الصحف سوى (الأخيرة والرياضة فقط)، فأنا (وأعوذ بالله من هذه الكلمة الفضفاضة).. تاجر متواضع كنت متجهاً إلى الصين الشعبية وتحديداً إلى مقاطعة (جوانج زهو) لغرض التجارة، وفور وصولي ومرافقي إلى تلك المقاطعة وفقنا بمترجم للإنكليزية يفك لنا طلاسم تلك اللغة المبهمة. في اليوم التالي لوصولنا، وبينما نحن ننهي جولتنا في بعض المصانع فوجئنا برجل صيني الملامح تعاريج لغتهم المكتوبة أخذت من وجهه مأخذها، ما ان رأى ملامحنا العربية حتى بادر بالسؤال عن بلادنا، فأجابه المترجم بالصينية (المرهقة) أنهم من السعودية، وفجأة انفرجت أسارير هذا العجوز حتى أكاد أجزم أن تعاريج وجهه اختفت في خلسة من ابتسامته، وأخبرنا المترجم أن ذلك العجوز يدعونا لبيته القريب، فاعتذرنا بأدب متعللين بانشغالنا ولم يكن الأمر كذلك، فقد كنا في طريقنا إلى الفندق بعد يوم عمل شاق، فما كان من العجوز إلا أن قبضني من يدي قبضة مصارع محترف لا قبضة عجوز تعدى الثمانين، وقادنا إلى منزله اقتياداً ورضخنا حيال إصراره بعد أن علمنا أنه من الأقلية المسلمة في قلعة الشيوعية الأولى (بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قبلتهم الأولى). دخلنا بيتاً صغيراً، تكاد جدرانه تطبق على من في الداخل، وسقفه المتدلي يكاد يخبرنا عن سر القامة القصيرة لدى تلك الشعوب، وعلى أثاث متواضع تواضع هذا العجوز جلس وجلسنا بعد أن أحضر شراباً بارداً (لم أتبيّن ماهيته حتى اللحظة)، وأخبرنا أنه زار المملكة منذ 3 سنوات لأداء فريضة الحج، وفي غمرة حديثه عن ذكرياته الجميلة في ربوع الحرمين قفز من مكانه كأنه شاب في العشرينيات ليعتلي درجة في دولابه الخشبي ويخرج لنا علبة خضراء مغلَّفة (للأمانة فقد كانت المرة الأولى التي أشاهدها) نقش عليها بخط الثلث العتيق (هدية وجبة خادم الحرمين الشريفين) أردف بأنه أحضرها من بلاد الحرمين كتذكار، ولم يشأ أن يفتحها لتبقى كما هي، قلبتها بين يدي وأعدتها له، فاحتضنها وأعادها إلى عرينها وهو يمسح عليها كأب يحنو على طفله، وبعد حديث طويل عن دهشته لما شاهد من اهتمام بالحجيج، وعن ذكرياته المخزنة في ذاكرته الغضة استودعنا هذا العجوز الذي لولا مترجمنا لما عرفنا منه سوى كلمة (الحمد لله) بهاء العجم لا بحاء العرب المستعصية على ألسنتهم. عدنا وحطت الطائرة في جدة، وصورة هذا الرجل لا تفارق خيالي، فقد جعلني اعتقد أن المملكة دولة عظمى لا بأسلحتها ولا بجبروتها ولا بسطوتها، بل بتلك اللمحات الإنسانية التي وصلت أقاصي الأرض، ولا أخفيكم فقد كنت أمر على عبارة (مملكة الإنسانية) كشعار مبهم، أما الآن فقد فك طلاسمه لي من كنت اعتقد أن لغته تحتاج إلى من يفك طلاسمها.
|
|
|
| |
|