وقفت وقفة تأمل أمام قول الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما ورد في صحيح البخاري: (إنَّ الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبْقِ عالماً أتَّخذ الناس رؤوساً جُهَّالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلُّوا وأَضلُّوا). وما كدت أوغل في تأمُّل هذا الحديث الشريف حتى أشرقت أمامي شمس بلاغة نبيِّنا -عليه الصلاة والسلام- صافية في كبد سماء لغة القرآن الخالدة، وحتى برزت لي المعاني العميقة، والدَّلالات البعيدة المدى في هذا الحديث النبوي الجامع المانع في هذا الباب.
إنَّ في هذا الحديث مجموعة من الدلالات والإيحاءات يمكن أن نجمعها في عدد من النقاط.
1- أهمية العلم وقيمته -2- خطورة الجهل -3- أنَّ العلم يُقْبَض -4- أنَّه لا يقبض بانتزاعه ورفعه من الأرض -5- أنَّ العلم يُقبض بموت العلماء -6- أنَّ موت العلماء خسارة كبيرة -7- أنَّ موت العلماء يتيح مجالاً لتقدم الجهلاء وتصدرهم -8- أنَّ الجهل مرض -9- أنَّ الجاهل يتجرَّأ على الفتوى بغير علم -10- أنَّ الفتوى بغير علم خطر عظيم على المجتمع -11- أنَّ الجاهل الذي يفتي بغير علم يضل عن الطريق الصحيح -12- أنَّ الجاهل يُضلِّل بفتواه الناس.
هكذا يرسم لنا مَنْ أتاه الله جوامع الكلم - صلى الله عليه وسلم - هذه المعاني كلها وهذه الدلالات جميعها، في هذه الجمل المختصرة التي ضمت جوانب قضية مهم جداً في حياة الأمم والشعوب.
العلم نور، والعلم الشرعي هو أساس العلم، ومصدر النور، لأنه علمٌ بشرع الله الشامل الكامل لجوانب الحياة كلها، والحياة في الدنيا لا تستقيم إلا بهذا العلم، وإن ظهر لنا منها البريق المادي المغري، والتطور المادي المذهل، فإن كلَّ ذلك مرهون بالحياة الدنيا التي سرعان ما تزول، وأنَّ كل ذلك إذا لم يكن منضبطاً بعلم الشرع سيكون مصدر وبال على البشر. نحن الآن في عصر متطور مادياً، اختراعات مذهلة، وصناعات دقيقة جداً، وقدرات مادية متعددة، ومظاهر حياة بشرية حافلة بالبناء والتطوير والصناعي والزراعي، والقُوى العسكرية الهائلة، ولكننا مع ذلك أمام ظلم وطغيان، وقتل وتدمير، واحتلال للبلاد، وتسلُّط على العباد، أمام فنٍّ رخيص، ومسارح منحرفة، وأخلاق تهبط بكثير من الناس إلى ما هو دون منزلة البهائم، فأين مكمن الخطر؟
إنه البعد عن الاستضاءة بنور العلم الأصيل، العلم الأهم للبشر ألا وهو العلم الشرعي.
وهذا العلم يحمله العلماء الفضلاء المخلصون الذين يرتفعون بعلمهم إلى درجات عاليات في الدنيا والآخرة، ولولا هؤلاء العلماء الفقهاء لضاعت حياة البشر، ومن هنا كان وجودهم فضلاً من الله على الخلق، لأنهم يقومون على بصيرة بتقويم المعوج، وإصلاح الفاسد، وإرشاد الغادي، وردع الظالم بنصحه وتوجيهه، وتوجيه عامة الناس إلى حياة حرة كريمة منضبطة بضوابط شرع الله، وهذا - كما نرى - دور عظيم للعلماء في بناء الحياة البشرية الصحيحة، ولهذا نراهم كالنجوم في الليلة المظلمة تدل السائرين على الوجهة الصحيحة في دروبهم.
لقد فقدنا في السنوات الخمس الأخيرة عدداً من العلماء الأجلاء الذين عرفوا بحرصهم على العلم الشرعي الصحيح، وعلى مصالح الناس جميعاً، وعلى مصالح الأمة الإسلامية بصفة عامة، كما عرفوا بتواضعهم الجَمَّ، وعدم ميلهم إلى زخارف الحياة الدنيا الزئلة، وبنصيحتهم التي لا تنقطع لولاة أمر المسلمين، نصيحة العالم المصلح الذي يريد الخير، ولا يجنح إلى الإثارة والضجيج الإعلامي الصاخب، نعم فقدنا كوكبة مباركة من هؤلاء العلماء فشعرنا بهزة يمكن أن توصف بأنها (عنيفة) في مجالات العلم الشرعي والفتوى، وهنا تبرز أمامنا صورة الحديث النبوي الشريف المتعلقة بقبض العلماء.
هنا تعظم مسؤولية ورثة أولئك العلماء من العلماء الموجودين الآن، وفي كثير منهم خير - إن شاء الله - إنَّ العالم الحريص على تنقية سريرته، المتواضع للناس، الناصح، البعيد عن بهارج الدنيا - برغم أنَّ إباحة الاستمتاع بالحلال في الدنيا واضحة - إنَّ ذلك العالم الذي يتروَّى في حكمه ويتلطَّف مع الناس، ويتعاهد نفسه بتجديد إخلاصها وصدقها مع ربها، هو الذي يستطيع أن يمد لنا حبال النور في ظلمات هذا العصر المخيف.
إن كلَّ عالم مسلم يعيش معنا في هذه المرحلة لجدير بأن يتأمل حقيقة الدور الضخم الذي تنتظر الأمة أنْ يقوم به، وبهذا سنشعر أننا لسنا في المرحلة التي أشار إليها الحديث الشريف.
إشارة