| |
الوصايا العشر د. محمد بن سعد الشويعر
|
|
يهتم الإنسان بالوصيّة، سواء كانت وصايا على أموال وعقارات، كما يحصل من ذوي اليسار عند الموت، حيث بيّن سبحانه وتعالى ذلك، في سورة النساء، عند توزيع المواريث، بألا يعطى الوارثون، أنصبتهم التي حدّدها الله لهم، من ميراث المتوفى إلا بعد أن ينزع، من ذلك المال: ما أوصى به الميت، أو ما كان عليه من دين، لأن هذين مقدمان في التركة. كما يهتم الإنسان في أي ميدان يعمل فيه، بالوصيّة، متابعة وتنفيذاً، من الرئيس في العمل، والأجير عند صاحب الملك، والرعية في وصايا وليّ الأمر، بما يجب تنفيذه في أمور رعيّته، والأولاد اهتماماً بوصايا آبائهم، وأمهاتهم، فيما ينفعهم بأمور دنياهم، والطلاب فيما يوصيهم مدرسوهم، الاهتمام به من المقرّرات المدرسية، حتى يتحقق لهم النجاح والفوز. وهكذا ندرك أن الوصايا، لدى الناس، في حياتهم الدنيا، يرجع الاهتمام بتنفيذها، إلى عاملين: رجاء في منفعة، وخوف من المحاسبة والجزاء. لكنّ وصايا الله سبحانه لعباده، أعمق من ذلك وأكمل، لأنها تشريع من الله جل وعلا، لعباده في أمور تتعلق برابطة المخلوق بالخالق، وأمر إلزامي لا تراخي فيه، يحاسب عنه يوم المعاد على الله بيّنه الله لعباده من مصدر التشريع: وهو القرآن الكريم: أمراً بالتنفيذ فيما ينفعهم ويسعدهم، ونهياً بالتحذير عن التهاون والتخاذل، قبل فوات الأوان.. وبذلك تقوم الحجّة، ليلقى كل جزاءه (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ} الجاثية 15، فالله جل وعلا حكم عدل، لا يظلمُ الناس شيئاً، ولو كان مثقال حبّة من خردل. الوصايا العشر، جاءت متتابعة في سورة الأنعام، واضحة وموجهة لمن منحه الله حواسّ يدرك بها، وعقلاً يتفهم به، ووجداناً يراقب الله فيما يعمل من هذه الوصايا وغيرها، ليعمل رجاء الاستجابة، وبقلب مطمئن بالإيمان، وتركاً خوفاً من أخذ الله للعاصي، لأن أخذه سبحانه أليم شديد. جاءت هذه الوصايا، في آخر سورة الأنعام، حيث سبقها من الآيات، إيضاح لبطلان ما يتعصب له الجاهليون العرب، في جزيرتهم، وأهل الكتاب المغيرون لنصوص في كتبهم.. بدأها الله سبحانه بقوله: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} (151) سورة الأنعام، فهي دعوة وحث على الاستجابة والسماع، بدأها الله جل وعلا بأهمها وأعمقها دلالة، وأجلها عند الله: 1- (عدم الإشراك بالله): لأن الأساس في خلق الإنس والجن، عبادة الله وحده، بدون إشراك أي شيء سواء كان في الملائكة أو السموات والنجوم، أو الشمس والقمر والشجر والحجر، أو الجن والإنس ومن ولي أو نبيّ، أو أي شيء كان وإشراكه مع الله في العبادة، مما لا يغفره الله كما قال سبحانه {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} (116) سورة النساء، وعن مهمة الخلق للإنس والجن يقول سبحانه {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (56) سورة الذاريات. يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كنت أضحك مرة، وأبكي من أخرى من أمور الجاهلية، أضحك من صنم لي كنت أعبده، صنعته من تمر فإذا جعت أكلته، وأبكي من ابنة لي أحفر لها لأدفنها حيّة، وأدسّها في التراب، وهي تنفض التراب عن لحيتي. 2- {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} فالوالدان لهما حق عظيم، على أبنائهما إذ هما سبب وجودهم في الحياة، وتعبا عليهم، وسهرت الأم، وأضناها التعب من أجلهم، فقد قرن سبحانه طاعتهما بطاعته في سورة الإسراء، وشدّد رسول الله في عقاب من عقهما، فكان ذلك من الكبائر، وتوسع في ذلك نبيّ الرحمة، حيث يحتاج سرد ذلك إلى حيز كبير. 3- {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ} فكانوا في الجاهلية: يدفنون البنات، وهنّ على قيد الحياة، خوفاً من العار، ويقتلون الأولاد خوفاً من الفقر، فبيّن لهم سبحانه بأنه الخالق الرازق وهو مقدر الأمور {نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} وقد فسّر ذلك ما جاء في حديث ابن مسعود رضي الله، في خلق الإنسان، وقال: (ويؤمر بأربع كلمات: ومنها بكتب رزقه وأجله) فالله مقدر أرزاق عباده ذكوراً وإناثاً وهم في بطون أمهاتهم، وقبل نفخ الروح فيهم. 4- {وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} فيأمر سبحانه باجتناب كبائر الذنوب، بالجهر والسر، ليكون عند كل فرد مخافة من الله، وصدقاً في العمل معه، ووضوحاً في هذا العمل مع حسن النيّة. 5- {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} فالنفس البشرية معصومة، حرم الله الاعتداء عليها وقتلها إلا بالحق، وفّسر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الحق بقوله: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة). وبغير هذه الثلاث لا يجوز التعدي على الدماء بأي سبب دنيوي. 6- {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} فقد وعد رسول الله كافل اليتيم المحسن إليه بالجنة في منزلة مع عليه الصلاة والسلام، ومن كفالة رعاية أمواله وحفظها له حتى يبلغ رشده العقليّ، وحسن التصرف، وإن لم يكن هناك ولي مصلح، فالمحكمة الشرعية، ترعاه أو تبحث عن ثقة يقوم بهذه الرعاية، لاستثمار أمواله، وحفظها حتى يرشد. 7- {وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} لأن في البخس سرقة وظلماً للناس، وقوم شعيب خالفوا نبيهم بهذا إذا كالوا أو وزنوا لأنفسهم، استوفوه كاملاً، ولغيرهم يبخسون الناس حقوقهم، فكانوا ظالمين ولم يستجبوا لنداء نبيهم فعذبهم الله بذلك، لأن دين الإسلام، يدعو للعدل وإعطاء الناس حقوقهم، وعدم ظلمهم وأكل أموالهم بالباطل. 8- {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى}. القول هنا يحتمل كل ما يتعلق بالحياة، وكان فيه حقوق ومصالح، لطرف دون طرف، فيأمر سبحانه بالعدل والإنصاف، من النفس ولما يتعلق بالقربى، فلا شهادة بمحاباة، ولا قول في أمر يضر البعيد، في ماله أو نفسه، فيترك فيه العدل من أجل الحميّة والقرابة، إن ذلك من أمور الجاهلية التي أبطلها الإسلام، فالله عدل يحب العدل، وما أُخذ بالظلم والإجحاف فهو حرام وسحت. 9- {وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ}، سواء عهد الزواج، أو عهد الدين، أو عهد من العقود المتنوعة بين الناس، أو عهد بين أمة وأمة وغير ذلك فيجب الوفاء بها، لأنها عهد حثّ الله على الوفاء به، وخيانته خيانة الله، يستحق صاحبه العقوبة، عاجلاً وآجلاً. 10- {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ}. بيّن هذه الوصية رسول الله بعلامة إيضاح محسوسة، وهو مع أصحابه: فخط خطاً مستقيماً طويلاً، وخط بجانبيه خطوطاً خارجة عنه، ثم قرأ هذه الآية، موضحاً أن دين الله الذي لا يقبل من البشر سواه، مستقيم، وأن الفرق والملل التي تباينه، باطلة مخالفة للمسيرة التي أرادها الله فيجب الثبات على هذا الطريق.. كما يجب مراعاة وصية الله هذه التي أكدّها في ختام كل آية لأهميتها، ووجوب عدم الابتعاد عنها لأنها طريق الفلاح. علاج مرض خفيّ ذكر البستي في كتابه أنه كان ببغداد، رجل يسمونه طبيب القرّاء، وكان يتفقد الصالحين، ويتعاهدهم فقال: دخلت يوماً على الإمام أحمد بن حنبل، فإذا هو مغموم مكروب، فقلت: مالك يا أبا عبدالله؟ قال: امتحنت بتلك المحنة، حتى ضربت ثم عالجوني وبرأت، إلا أنه بقي في صُلبي موضع يوجعني، وهو أشد عليّ من ذلك الضرب، فقلت، اكشف لي عن صلبك. فكشف لي فكم أثر فيه إلا أثر الضرب فقط، فقلت: ليس لي بذلك معرفة، ولكن سأختبر عن هذا، قال: فخرجت من عنده، حتى أتيت صاحب الحبس، وكان بيني وبينه فضل معرفة. فقلت الحبس في حاجة؟ قال: ادخل فدخلت، وجمعت فتيانهم، وكان معي دريهمات فرقتها عليهم، وجعلت أحدثهم حتى أنسوا بي، ثم قلت: من منكم ضُرب أكثر؟ فأخذوا يتفاخرون، حتى اتفقوا على واحد منهم أنه أكثرهم صبراً. فقلت له: أسألك عن شيء؟ قال: هات. فقلت: شيخ ضعيف، ليس صناعته مثلكم، ضُرب على جوع للقتل سياطاً يسيرة، إلا أنه لم يمت، وعالجوه وبرأ، إلا أن موضعاً في صلبه يوجعه، وجعاً ليس له عليه صبر. فضحك، فقلت مالك. قال: الذي عالجه كان حائكاً. قلت: إيشْ الخبر؟ قال: ترك في صلبه قطعة لحم لم يقلعها، قلت: فما الحيلة؟ قال: يبط صلبه، وتؤخذ تلك القطعة، ويرمى بها، وإن تركت بلغت إلى فؤاده فقتلته، قال: فخرجت من الحبس، فدخلت على أحمد بن حنبل فوجدته على حالته، فقصصت عليه القصة. فقال: ومن يبطّه؟ قلت: أنا. قال: أو تفعل؟ قلت: نعم. فقام ودخل البيت، وخرج وبيده مخدّتان، وعلى كتفه فوطة، فوضع إحداهما لي، والأخرى له، ثم قعد عليها. وقال: استخر الله، فكشفت الفوطة عن صلبه، فوضعت إصبعي على موضع الألم، فقال: هاهنا أحمد الله على العافية، فوضعت المبضع عليه، فكما أحسّ بحرارته، وضع يده على رأسه، وجعل يقول: اللهم اغفر للمعتصم، حتى بططته فأخذت القطعة الميتة ورميت بها. وشددت العصابة عليه، وهو لا يزيد على: الله اغفر للمعتصم، ثم هدأ وسكن، ثم قال: كأنني كنت معلقاً فأطلقت. ثم قلت له: يا أبا عبدالله وهو قد ظلمك تدعو له بالمغفرة، قال: هو ابن عم رسول الله، فكرهت أن آتي يوم القيامة، وبيني وبين أحد من قرابته خصومة، هو منّي في حِلّ. (روضة العقلاء ونزهة الفضلاء للبستي ص 164 - 165).
|
|
|
| |
|