| |
الشيخ السعدي والتركي وسماحة الإسلام ويسره حمد بن عبدالله القاضي
|
|
استمعت خلال احدى ليالي هذا الشهر الكريم بالرحلة عبر كتاب صغير ومهم عنوانه: (من حكايات الشيخ عبدالرحمن السعدي) الذي أصدره أخي الأستاذ الكريم: إبراهيم بن عبدالرحمن التركي. لقد سعدت بقراءة هذا الكتاب لسببين: أولهما: إنني معني بالفترة الأخيرة بكل ما من شأنه ابراز سماحة الاسلام وتيسيره، ورفع المشقة، وحسن تعامله مع الآخر بل الاحسان إليه حتى ولو كان غير مسلم، وثانيها: محبتي للعلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي العالم الموسوعي الذي كان أحد أبرز العلماء المعاصرين الذي كان أنموذجاً قبل أكثر من نصف قرن (ولد عام 1307هـ وتوفي رحمه الله 1376هـ) لابراز سماحة ديننا الاسلامي عبر فتاواه وكتبه واجتهاده وتفسيره الميسر للقرآن العظيم، بل اتخذ ذلك منهجا له كما جاء في قوله: (يلاحظ في هذه الأوقات التسهيل ومجاراة الأحوال إذا لم يخالف نصا شرعيا، فالتسهيل عند تكافؤ الأقوال يخفف الشر، كما يلاحظ أيضا أن يعرف الناس أن الدين الإسلامي لا يقف حاجزا دون المصالح الخاصة أو الراجحة، بل يجاري الأحوال والأزمات ويتبع المنافع والمصالح الكلية والجزئية..) (ص7). *** لقد وفق أخي التركي بعرض منهج الشيخ السعدي وابراز خطابه التسامحي عبر حقائق ومواقف واقعية عاشها وتعامل معها وليس عبر فتاواه وما ورد في كتبه فقط. لقد كان (خطاب التسامح الاسلامي) عبر أحد علمائه هو جوهر هذا الكتاب، يقول المؤلف وهو يصف الشيخ ابن سعدي رحمه الله وصفاً صادقاً ودقيقاً: (وسطيّ قبل أن تؤدلج (الوسطية).. ومربٍّ لم يحتج إلى (نظرية).. وعالم دقيق.. وداعية رفيق.. لم يكتف بالفتيا.. ولم تشغله الإمامة والخطابة.. ولم ينقطع (للدرس) و(الطرس) بل كان فيها ومع سواها قاضيا بلا (منصب) وإدارياً من دون (مرتب) ورجل بر وخير وصلة يحل المشكلات ويسدد الثغرات والعثرات) (ص25). *** ولقد انطلق الشيخ السعدي رحمه الله في دعوته للتيسير من (كون الإسلام صالحاً لكل زمان ومكان) حقيقة لا تنظيراً، (فأينما كان مصلحة فثم شرع الله) كما قال الإمام ابن القيم، ومن ذلك فتواه بجواز نقل الأعضاء قبل أكثر من 50 عاماً، فضلا عن رؤيته المتقدمة، وفهمه لمستجدات العصر ومخترعاته وقناعته بعدم تعارضها مع مبادئ الاسلام ثم استخدامه المنطق لاقناع الناس بها مثل موقفه عند وصول البرقية إلى القصيم، حيث كان يُقنع من يسأل عنها بجواز استخدامها وأنها لا تعمل بأمر الجن أو الشياطين، يقول رحمه الله: (لو كان كذلك لما نقلت اسم الله وآي القرآن الكريم، ولو انقطع فيها سلك مثل شعرة اللحية ما عملت، وأكد لسائليه انها نعمة من نعم الله تزود الناس بالأخبار وتعلمهم عن دخول رمضان وحلول العيد، كما توفر الوقت، ودعا الله أن يتم توفيرها لأهل عنيزة) (ص38). ومثل نظرته للمسرح فقد كان يحضر الحفلات المدرسية ويشاهد العمل المسرحي (الطارئ حينها) كما كان يحرص على تشجيع التنافس العلمي والثقافي، وروى معالي الأستاذ عبدالله النعيم أنه كافأه بمبلغ كبير وقتها حين حفظ أحد النصوص العلمية (ص39), ومثل موافقته على أخذ صور عبر لقطات سينمائية قصيرة عندما زار لبنان للعلاج عام 1373هـ (ص35). *** بل كان له موقف واعٍ متقدم عند الصعود إلى القمر في وقت كان ذلك موضع استغراب كثير من الناس في مختلف أرجاء العالم بل اعتقاد البعض منهم استحالته وكان للشيخ رؤية عميقة، يروي أ.التركي في كتابه هذا الموقف: (قبل أكثر من ستين عاما (1360هـ) تسامع الناس في (عنيزة) عن عمليات غزو الفضاء ومحاولات الهبوط على سطح القمر قبل أن يتم ذلك فعليا بحوالي ثلاثين عاما.. فلجأوا مستفهمين وربما مستنكرين الى (الشيخ عبدالرحمن) وأجابهم الشيخ من فوره أن ذلك - لو تم - ممكن بواسطة آلة ترفعهم إلى القمر أو أي سلطان آخر، وروى ذلك ابنه الشيخ (محمد العبدالرحمن السعدي)، وأشار إلى أن معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري قد استعاد الحكاية عام 1418هـ في فندق (بريزدنت) بسويسرا بحضور أعضاء أحد أعضاء الكونجرس الأمريكي الذي عجب من شيخ نجدي اقتنع قبل الحدث بما لم يقتنع به بعض الأمريكيين بعده..!) (ص41). *** وهناك تجربة جميلة تشير إلى وعي الشيخ السعدي وحرصه على ابراز عناية الاسلام بكل ما يهم الانسان، وما يحقق له الحياة الطيبة في الحياة الدنيا فعندما سافر إلى بيروت للعلاج اطلع على كتاب (ديل كارنجي): (دع القلق وابدأ الحياة) وقرأه الشيخ ورأى أن يؤلف كتابا على غراره، يوضح السبل التي تحقق للانسان الطمأنينة والرضا ولكن وفق منهج الله الذي برأ الأنفس وخلق الإنسان وهو الأعلم بما توسوس به نفسه، ومن منطلق نصوص كتاب الله: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) (سورة النحل آية 97)، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (سورة طه آية 124). لقد ألف رحمه الله كتاباً لطيفاً جميلاً ذا صفحات محدودة وضع فيه الأسس لسعادة الإنسان في الدارين وأسماه: (الوسائل المفيدة للحياة السعيدة) وهو من أجمل الكتب التي كلما قرأته مرة شعرت أنك بحاجة إلى أن تقرأه مرة أخرى وبخاصة عندما تكابد كدراً من أكدار الدنيا. *** وأتوقف عند أحد مناهج الشيخ التي سعى الى ترسيخها تأصيلاً وسلوكاً، وهذا الامر يتعلق بأمر بالغ الأهمية طالما بعث المشكلات وفاقم الخلافات، هذا المنهج هو حرص الشيخ على التثبت عند نقل رأي، أو الحديث عن إنسان وما أكثر اولئك الذين يسارعون باذاعة ما يسمعون سواء تثبتوا أم لم يتثبتوا، اقرؤوا هذا الموقف لهذا الشيخ الجليل الذي ورد في (ص28): (روى الأستاذ الدكتور عبدالله اليوسف الشبل أن (أحدهم) تحدث معه عن احتواء كتاب (كفاحي) لأدولف هتلر على اساءة (للعرب) فسأله الشيخ: هل قرأت الكتاب بلغته الأصيلة؟ وإذ نفى (المعترض) ذلك وأنه قرأ النسخة العربية، رد الشيخ: إذن فاعلم أن الكتاب صدر (بالألمانية) ثم ترجم الى (الانجليزية) ومنها إلى (العربية) وربما زيد عليه أو أبدل فيه، ومن الواجب (التثبت) قبل الحكم وخصوصا أن (لهتلر) أعداء لن يتورعوا عن تشويه صورته). جانب آخر من جوانب سماحة الشيخ وحسن تعامله، وقد وظف ذلك في الدعوة إلى الاستقامة على الطريق الصحيح، والدعوة الى نبذ الحرام والابتعاد عن المحرمات، واقرؤوا قصته مع (صاحب الجمل) الذي يشرب الدخان وهي تجيء في سدة خطاب تسامح علماء الاسلام الذين فهموا الدين الاسلامي فهما حقيقيا على ضوء هدي رسوله الذي جاء ليتم مكارم الأخلاق، وهذه هي القصة كما وردت في كتاب (من حكايات الشيخ عبدالرحمن السعدي): (اشترى الشيخ حمولة حطب جاء بها صاحب الجمل إلى البيت، وعند خروجه - بعد انزال الحمولة - وجد الشيخ (علبة دخان) في الأرض فنادى الجمال وقال: أهذه لك؟ قال: نعم، قال الشيخ: خذها؟ فرد الجمال: أو تعرف ما فيها يا شيخ؟ قال: نعم.. دخان! قال: وتعطيني اياها؟ قال: نعم، لأنك إذا لم تجدها فسوف تشتري بقيمة الحطب بديلا لها، وستكون على حساب قوت أولادك، والهادي هو الله سبحانه، فقال الجمال: بسم الله، ونثر ما في العلبة من التبغ والورق وأعلن أمام الشيخ تركه التدخين..!) (ص42). الله كم هو مؤثر هذا الموقف من هذا الشيخ.. إنها الدعوة الى الخير بالسلوك الحسن، وليس فقط بالأمر والزجر. *** لكن ماذا عن نظرة الشيخ - قبل أكثر من نصف قرن - للمرأة وحرصه على انصافها وعدم بخسها حقها من منطلق ذكوري لا يمت إلى الشرع.. لقد كان الشيخ أنموذجا في ذلك فعلا وفتوى، فمثلا كان يرفض أية وصية يوصى فيها (للذكور ما تناسلوا وللبنت حياة عينها)، وكان يستقبل النساء (1307هـ - 1376هـ) عند باب بيته ويفتيهن وجها لوجه، وإذا كان السؤال خاصا كانت السائلة تهمس به في أذن زوجة الشيخ - رحمها الله - فتنقله جهراً ويجيب على ذلك رحمه الله (ص33). وماذا عن منهج الشيخ في الجانب التربوي والاجتماعي.. كانت له نظرته الاجتماعية الصائبة المبكرة، بل له نظرات تربوية واجتماعية مبكرة في درء المشكلات الاجتماعية قبل حصولها فقد تزوج ابنه عبدالله فاستأذنه للاستقلال في بيت خاص فاذن له، وعندما راجعه ابنه خشية كلام الناس قال له: سوف أجيبك على ذلك لاحقا، وبعدها صار ذلك أمرا اعتياديا عند أهل عنيزة، بحيث يكون الابن مستقلا ما دام قادرا على ذلك ويوفر له ولأسرته الاستقرار فضلا عن تقليص المشاكل التي قد تحصل داخل الاسرة التي تكون تحت سقف واحد. *** وماذا عن رؤية الشيخ لبعض أنماط التسلية والترفيه من منطلق فهمه لطبيعة الناس والشباب خاصة، فقد مر بمجموعة (البنائين) وهم يعملون لاقامة أحد المنازل وسمعهم يغنون، ولما لمحوه صمتوا احتراما لله، ولكن الشيخ - رحمه الله - توقف عندهم وبكل سماحة سألهم لماذا لا تغنون؟ وأضاف: (ترى الغناء ينشطكم ويختصر الوقت عليكم) (ص43). بل إنه دخل مرة على مجلس وكان فيه أحد الشباب الذي لم يره، وكان يغني احدى الأغنيات المعروفة آنذاك فقال له الشيخ رحمه الله: (اثرك هواوي) ولم يزجر هذا الشاب (ص44). ترى ما هو أثر هذا الموقف على هذا الشاب.. لعله حفزه على أخذ حياته بالجد بعيداً عن تضييع وقته بما لا يجدي. إن الوقت قيمة حضارية ومن يستطع أن يفيد من وقته ويوظفه توظيفاً جيداً فإنه يستطيع أن يعطي ويبدع مهما كان عمره قصيرا، والشيخ ابن سعدي أنموذج في الاستفادة من الوقت، فقد كانه له برنامج عجيب في حياته يبدا بعد صلاة الفجر وقد أورد المؤلف برنامجه كما ورد في (ص19) من هذا الكتاب، ولقد استغل كل دقيقة في حياته في توازن رائع بين مختلف المسؤوليات والواجبات ولهذا كان له - رحمه الله - كل هذا العطاء رغم انه انتقل إلى رحمة الله في الستينيات من عمره، يضاف الى ذلك جلده وصبره فقد كان ينسخ كثيرا من كتبه بنفسه رغم التزاماته ومشاغله بالإمامه وجلسات العلم بجامعه، لقد نسخ الشيخ كتابه الشهير (تفسير القرآن) مرتين مع انه كان يتكون من اثني عشر مجلدا. *** أختم استعراضي لهذا الكتاب بموقف بالغ التأثير يشير إلى انسانية الشيخ وحنوه على المحتاجين، لقد كان طرازاً نادراً في الرحمة والشأن الإنساني، فقد رأى مرة محتاجاً عند باب الجامع، وكان قادما للصلاة، فما كان منه إلا أن ابتعد عن عيون الناس وخلع أحد ثوبيه ثم أتى للفقير وأعطاه الثوب دون أن يراهما أحد وذهب للصلاة (ص35)، أسأل الله له كما رحم هذا الفقير أن يرحمه ويكرمه بجنة المأوى. وبعد هذا الكتاب - على صغر حجمه - كتاب يستحق القراءة. فهو يكشف بالوقائع جوانب من سماحة الإسلام، وسماحة علمائه الذين فهموا الإسلام ومقاصده ومنهجه في التيسير، وكم نحن بحاجة الى ابراز هذه المفاهيم في هذا الوقت الذي يُتهم فيه الاسلام بالغلو والإرهاب والعنف، ومعاداة الآخر بسبب فئات ضالة شاذة أساءت إليه جزاها الله بما تستحق، ورحم الله كل من أعطى وبذل من أجل اظهار صورة الإسلام الحقيقية سابقاً ولاحقاً.
|
|
|
| |
|