القاهرة - أحمد عزمي:
في مجتمعات تخشى البوح، تخرج الشاعرة الموريتانية (مباركة بنت البراء) لتشارك في الملتقيات الشعرية الدولية، وآخرها ما عقد في القاهرة في مارس الماضي، حيث صدر لها ثلاثة دواوين: (ترانيم) و(مدينتي والوتر) و(أحلاهم أميرة الفقراء) إضافة إلى سلسلة للأطفال تحمل عنوان (حكايات الجدة).
هنا حوار مع مباركة بنت البراء عن الشعر والحياة في موريتانيا التي تكاد تكون مجهولة لدى الكثيرين منا، فإلي مزيد من التفاصيل...
كيف بدأت علاقتك بالشعر؟
- علاقتي بالشعر بدأت مبكراً، من خلال المحفوظات المدرسية، ومن خلال قراءاتي في كتابي الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وكنت أسرق هذه الكتب من مكتبة والدي، الذي كان مفتشاً عاماً بالتعليم، وكانت هذه القراءات من دواعي توجهي للأدب، فقد حفظت أشعار امرئ القيس وطرفة بن العبد وغيرهما، ما أثرى ذاكرتي الشعرية، وجعلني أحلق في سماء الشعر.
لماذا هذا الولع بالتراث كما يبدو في شعرك؟
- التراث جزء من بنيتي الثقافية، وجزء من تكويني وأنا أتحدث من خلال ما أعرفه، ولا بد أن يظهر التراث في شعري، لأن الإرث الثقافي مظهر من مظاهر الحفاظ على هويتنا العربية.
تكتبين القصيدة العمودية والتفعيلة.. ألم تفكري في كتابة قصيدة النثر؟
- أكتب النثر ولكن لا أسمية قصيدة، لأن هناك تناقضاً في المصطلح نفسه، حيث لا يتسنى الجمع بين النثر والشعر في اصطلاح واحد.
يبدو البعد العروبي واضحاً في شعرك على نحو كبير هل هناك أسباب معينة وراء ذلك؟
- هذا البعد ظهر في شعري، منذ زيارة الشاعر الراحل الكبير محمود درويش لموريتانيا في العام 1992، حيث أقيمت له أمسية شعرية حاشدة، تأثرت بها أيما تأثر، لقد أيقظ شعره في داخلي الهاجس القومي العربي، فكتبت قصيدة رثاء في (محمد الدرة) من الشعر العمودي، أيضاً كتبت قصيدة بعنوان (رسالة إلى قناص) استلهمتها من بكائية ابن زريق البغدادي عن العراقي.
برأيك.. لماذا فشل المشروع القومي؟
- كان لهزيمة يونيو (حزيران) 1967 الأثر الأكبر في تراجع المشروع القومي العربي، وما حدث عندنا في موريتانيا أن الذين آمنوا بالقومية العربية، وتغنوا بها وبأمجادها، تحولوا بعد النكسة إلى شيوعيين، يتحدثون عن الغرب وتقدمه العلمي، وضرورة أن نتعايش معه ونحاكيه، كما أننا افتقدنا قيادة بحجم وكاريزما جمال عبدالناصر، فبات من الصعب تكرارها، كل هذا أسهم في تراجع، بل انهيار المشروع القومي.
يقال إن موريتانيا بلد المليون شاعر فهل يدور هناك حديث عن أزمة الشعر؟
- أزمة الشعر مسألة عامة تخص العالم كله، لا الوطن العربي فقط، وموريتانيا تشهد هذه الأزمة مثلها مثل دول العالم، وقد يكون هناك انفراج يتبدى في ذلك الصراع الحاد بين القديم والجديد، بين القدامى والحداثيين، ربما يولد هذا الصراع نوعاً جديداً من الشعرية، له قيمة إبداعية كبرى، سواء كانت كلاسيكية أم حداثية.
هل لنا أن نتعرف على مساحة الإبداع في موريتانيا التي تبدو لكثير من العرب وكأنها قارة مجهولة؟
- موريتانيا بلد عربي مسلم، تمثل الثقافة العربية الإسلامية الجزء الأكبر من تكوينه الوجداني، رغم بداوة المجتمع، فالتعليم يتم من خلال (المدارس المتنقلة) التي يدرس فيها الشيخ كل المعارف الإسلامية من قرآن وحديث وشعر جاهلي ومنطق وبيان وعلوم اللغة، فكأن هذا الشيخ هو أستاذ كرسي في كل المعارف والعلوم العربية الإسلامية، وفي هذه (المدارس المتنقلة) يدرس كل الفئات من كل الأعمار.
أصبحت موريتانيا منارة إشعار ثقافي إسلامي، فقد نشرت الإسلام في ربوع أفريقيا السوداء من خلال التجار والشيوخ الموريتانيين، كما شكلت موريتانيا حصناً حصيناً لتدوين ثقافة الفرنسيين الذين استعمروا البلاد، وأصبحت الثقافة الفرنسية جزء من ثقافة موريتانيا.
وأين موقع أدب المرأة الموريتانية؟
- يسيطر على الساحة الثقافية في موريتانيا نوعان من الأدب: الأول ينتمي إلى الشعر الفصيح، والثاني يسمى بالغناء، وهو يعادل الأزجال، التي تتسع لكل الأغراض الشعرية، التي ميزت الشعر العربي على مر العصور من مدح وغزل ورثاء وحماس... الخ.
ولم يكن المجتمع الموريتاني يسمح للمرأة إلا بدراسة القرآن والفقه، فظل الشعر حكراً على الرجال ومحظوراً على النساء لفترة طويلة من الوقت، والنوع الوحيد الذي سمح به المجتمع الموريتاني للمرأة هو ما يسمى (التبراع) وهو فن جميل نشأ في البيئة الموريتانية المسلمة المحافظة، حيث لم يكن مسموحاً للمرأة بالتعبير عن شجونها أو ملاقاة الرجال والحديث إليهم، فأصبح لدى النساء قول جميل، فضاؤه مختصر، لكن النص مكتنز ومكثف في ثلاث كلمات فقط، تمثل قصيدة غزلية كاملة، وعادة ما تكون الشاعرة مبهمة، لا تصرح، حتى لا يشار إليها.
إلى متى تظل المرأة ممنوعة من البوح في المجتمع الموريتاني؟
- أنا شخصياً أعتقد أن تصريح المرأة بحب الرجل، يجافي أخلاقيات المجتمع الإسلامي، لأنني أطلعت على بعض الروايات، التي تكتبها بعض مبدعات عربيات، وكانت الكارثة أني وجدت ألفاظاً يندى لها الجبين، وهذا يتنافي مع العرف الاجتماعي والأخلاقيات العامة، فنحن لدينا أخلاقيات نقية، تميزنا ونريد أن تكون لدينا ثوابت نلتزم بها، وهذه الأنماط الشعبية التي تمارسها المرأة الموريتانية، تعوض الكثير من هذا البوح، لأنه بوح جميل وراق، فيه تلميح لا تصريح.
لك دراسة عن صورة المرأة في الأدب الجاهلي.. فهل اختلفت صورة المرأة قديماً عن صورتها اليوم في الأدب؟
- الشاعر الجاهلي كرس صورة نمطية كاريكاتورية للمرأة، فهي مثل غصن البان، وعيونها تشبه عيون المها، فهو يركز على الوصف الخارجي، أما المرأة في أدب اليوم فقد غابت عنها ملامحها الجسدية، وأصبح التركيز على أشيائها الخاصة، كما أن التلصص على كتابات المرأة، يفرض عليها نوعاً من الرقابة الاجتماعية.
كيف توثقين تجربتك الشعرية؟
- لا أسعى للترويج لتجربتي، لكني ألبي الدعوات التي توجه لي للمشاركة في المؤتمرات الشعرية، وأشارك فيها بفاعلية.
بمن تأثرت طوال مسيرتك الشعرية؟
- لا أستطيع أن أحدد أسماء معينة، ولكني دائماً أتمثل قراءة الشعر الجميل، وأنتقي ما أقرأ، وأحاول هضم ما تقع عليه يدي، ليشكل في النهاية تجربتي الخاصة التي لا تشبه تجارب أحد.
** كيف ينظر النقد العربي للقصيدة التي تكتبها المرأة؟
- عادة ما ينظر إلى كتابة المرأة العربية بكثير من الشك والريبة والتفتيش عما إذا كان ما تكتبه مطابقاً لسيرتها الذاتية أم لا، لكن في النهاية أصبحت كتابة المرأة واقعاً يفرض نفسه.
ما شكل القصيدة المقبولة لدى القارئ الموريتاني؟
- هناك أنماط مختلفة تمثل القارئ الموريتاني، فهناك من يرى أن الشعر الحقيقي هو الشعر العمودي، وما خرج عن هذا الإطار لا يسمى شعراً في نظره، ومنهم من يعتبر القصيدة العمودية جزء من ترسبات الماضي التي عفا عليها الزمن، ومنهم من يرى أن القصيدة التفعيلية تمثل فتحاً جديداً، ومنهم غير المقتنع بالشكلين، العمودي والتفعيلي، ويرى في قصيدة النثر مساحة أكبر للبوح.
تكتبين بالفرنسية أحياناً فهل يندرج الأدب المكتوب بلغات أخرى ضمن الأدب العربي؟
- هذه إشكالية كبيرة، فهذا الأدب يدخل ضمن إطار الأدب الوطني، لأنه يقدم صورة العالم العربي إلى الغير بلغته التي يفهما، ويعبر بقيمنا وتقاليدنا إلى بلدان أخرى.