من لم تقلقه استقالة الدكتور عبدالعزيز السبيل من وكالة الثقافة فلا بد أنه أعاد حساباته واستدرك الأمر بعد استقالة الدكتور سعد البازعي من رئاسة نادي الرياض الأدبي.
كذلك لا بد أنه حاول استجلاء رابط بين الاستقالتين المتزامنتين، وإن كان الاستنتاج الأقرب إلى الأذهان هو احتمال تولي البازعي شؤون الوكالة خلفاً للسبيل.
أدرج الخبر الذي نشر في الاقتصادية http://www.aleqt.com/2010/01/07/article328769.html أسباب استقالة البازعي التي شابهت أسباب السبيل: (التفرغ للعمل البحثي والأكاديمي والبحث والتأليف). كما امتدح الكثيرون عدم تمسك السبيل بالكرسي مدة طويلة؛ فلا بد أنهم سيعجبون برغبة البازعي في التنحي عن رئاسة النادي من «أجل إتاحة الفرصة للغير لتأدية دورهم وتقديم الجديد». هكذا قال البازعي بهدوء ودبلوماسية تشابه هدوء ودبلوماسية السبيل، وإن أضاف إلى قائمة الأسباب شدة انشغاله بمهام عضويته في مجلس الشورى التي «تتعارض وتزاحم» عمله كرئيس للنادي.
وعلى الرغم من هذه الأسباب المعلنة فإن خروج البازعي شكَّل علامة استفهام كبرى ظلت عالقة في أذهان المثقفين دون أن تنطلق لترجيحهم تكليفه بالوكالة لاحقاً. لكن الحيرة اعترت كل متأمل؛ فالتزامن وتشابه الأسباب المعلنة ينبئ بشيء ما، ويشير من طرف خفي إلى شيء ما: هل هذه بوادر انتكاسة بعد طفرة نوعية في الحقل الثقافي؟ هذان الرجلان ليسا مجرد إداريين تركا مقعديهما لمن يأتي من بعدهما، بل هما رمزان يتقدمان صف النخب الفكرية في الوطن، وهما من ذوي الكفاءة العالية التي تجعلهما يستحقان بجدارة مناصب الثقافة العليا. في مواقعهما الثقافية قام كلاهما بمهامه على خير وجه، وأسهما بشكل ملحوظ في استشراف المستقبل وتصويب الاستراتيجيات في الساحة الثقافية على مدى سنوات طويلة، حتى قبل تنصيبهما في مواقع إدارية؛ فلماذا الانسحاب إذاً؟
لم يتركنا الدكتور البازعي في حيرة مدة طويلة؛ بل إنه في لقاء له نشر في جريدة الحياة http://www.daralhayat.com/portalarticlendah/95357 بعد إعلان استقالته بيوم واحد أطلق تصريحاته التي وضعت النقاط على الحروف. إن كان السبيل قد التزم الصمت واكتفى بالأسباب الهادئة؛ فإن البازعي قد خرج عن المألوف وأزاح الستار عن معاناته، بل وأشار أيضاً إلى معاناة السبيل، مع «الوضع المؤلم الذي تعيشه الثقافة في بلادنا». وضعنا الثقافي مؤلم إذاً، وهذا ما دفع بالمؤهلين إلى التراجع والتخلي عن دفة الإدارة.
البازعي ترك موقعه متألماً وليس بسبب قُرب انتهاء فترة رئاسة مجلس الإدارة الحالي؛ فهو قد قرر عدم الاستمرار «حتى لو طلب مني الاستمرار في التشكيل الجديد لمجلس إدارة النادي لا توجد عندي الرغبة بذلك». هو الألم الذي نزع الرغبة، وهو الألم الذي جعله يرفض احتمال الانتقال إلى موقع السبيل الذي سيصعب أن يملأه أحد؛ ببساطة لأن جهد السبيل وأداءه المتميز وتكريس نفسه وجهده ووقته للإنجاز لم يكن كافياً لتفتيت الصعاب وتراكم الإخفاقات.
البازعي كان شاهداً عن قُرب على حيوية السبيل وقدرته على التنظيم وعلى «قيادة الثقافة المحلية إلى مراتب لم نعهدها من قبل»، لكنه كان شاهداً أيضاً على معاناته في وضع «لا يشجع على العمل أساساً»، وضع يدفع «أمثال الدكتور السبيل للابتعاد وبمؤسساتنا الثقافية للكساد».
هل تقع هذه التصريحات الخطيرة على أذن صاغية؟ كم من الوقت سيتردد صداها وتتجلى معانيها؟ أم هل ستصبح بعد وهلة نسياً منسياً؟ في اعتقادي أن هذه التصريحات هي تنبيه وإنذار لمن يدفعه طموحه فيتهور ويمني النفس بملء الفراغات التي تخلى عنها السبيل والبازعي. هذا ليس كلاماً عابراً من مسؤول ترك منصبه، بل هو تقييم دقيق ورصد وتشريح لواقع مرير من مثقف مستنير عمل قريباً من المؤسسة الثقافية الرسمية، واطلع على الكثير من وقائعها ودخائلها وصراعاتها وطبيعة القوى التي تحركها، أو بالأحرى التي تمنع تحركها. هذه تصريحات هي من الأهمية بمكان؛ فهي تشير بوضوح إلى أن هناك أزمات ثاوية ومسكوتاً عنها، أزمات التقصير وعدم وضوح المعالم وتشابك الحدود وضيق هوامش التحرك والركود الثقافي.
يضع البازعي أصابعه على مواطن الألم، «فالموازنة ضعيفة» ووكالة الوزارة للثقافة «لا تملك موازنة مستقلة، وتعتمد على جهات أخرى في الوزارة»، وهذا في تقديري أمر طبيعي؛ لأن الثقافة كانت وما زالت تشكِّل عبئاً على وزارة الإعلام حملته (فوق البيعة)، وإدارة الثقافة لم تأخذ وضعها الطبيعي ولم ترق حتى إلى مكانة (نصف وزارة)؛ فلا كوادر لا مكاتب ولا ميزانية. وعندما يُمنح ناد أدبي كبير في العاصمة مبلغ «مليون ريال فقط ليدبر أمر أنشطته كلها ومكافآت العاملين فيه لعام كامل» فذلك حكمٌ عليه بتواضع الأداء وتحجيم النشاط. والمالية لا تكتفي بعدم تخصيص مبالغ كافية للأنشطة الثقافية التي تضطلع وتقوم بها وكالة الوزارة، بل ترفض كذلك دعم إنشاء المباني التي تضم تلك الأنشطة وأهمها مبان للأندية الأدبية.
هل نطمح إذاً إلى موازنة جديدة ترفع حصة الثقافة وتضمن الإنفاق بسخاء على المشاريع الثقافية؟ هل سيقبل السبيل والبازعي (وأمثالهما) حينها بالبقاء في المواقع الإدارية؟ هل ستحل الأزمة ويزول الألم؟ في تصريحات البازعي تلميحات أخرى تنبش في مَواطن آلام لا تسكنها أموال قارون: فالصعوبات التي تكتنف مهمة وكالة الشؤون الثقافية كثيرة ومحبطة تتخطى الوسائل والطرائق، وتصل إلى أزمة الوجود الثقافي بحد ذاته. تظهر في لقاء البازعي مع جريدة الحياة كلمات ذات مضامين عميقة مثل «البيروقراطية» و»الهيمنة» و»السلطوية» و»التهميش»، كلمات يلخص معانيها في قوله الجامع: «التعامل مع الثقافة لدينا ليس بالقدر الذي نتطلع إليه، أو يحقق الطموحات».
هذا هو مكمن الخلل في وضع ثقافي مؤلم وله شجن عميق، وهنا تهتز مصداقية كل النشاطات القائمة والمحاضرات والندوات التي تبث في أضيق الحدود بسبب كل تلك الإعاقات. العمل الثقافي يكاد لا يتحرك في ظل التكبيل والعقد التي ظلت تفرض شروطها وحضورها الثقيل وحساسياتها وتوجساتها وترقباتها ومخاوفها التي لا حصر لها. الثقافة لا تكاد تتنفس في أجواء تحاصرها بوصمات السوء والتفسخ والانحلال. كيف يجرؤ أي عبقري في الإدارة الثقافية أن يمسك الدفة ويديرها في خضم يرفض وينقم على السفينة ومن عليها؟
لنعترف إذاً بأن تقاليدنا الاجتماعية لا تحترم الثقافة كقيمة حضارية وإنسانية عليا ولا تحترم ما تنتجه من قيم المعرفة والجمال والتنوير. تقبع الثقافة عندنا في الهامش وكأنها شأن ثانوي، وفي كثير من الأحيان يتربص بها المتربصون ويدفعون بها خارج الهامش؛ خوفاً من تأثيرها المفسد.
إنَّ استقالة السبيل والبازعي لا يمكن لها إلا أن تثير القلق؛ فهي مؤشر قاتم للانسداد النسبي لآفاق المستقبل الثقافي. وضعنا الثقافي المأزوم يغيب الدوافع ويخنق الطموح، والتغييرات القادمة لن تتجاوز إحلال أسماء بدلاً من أخرى تقوم في أحسن الأحوال بترقيع ثوب المشروع الثقافي المتعرقل.
يتركنا السبيل والبازعي بخلاصة تجاربهما مع المؤسسة الثقافية، لا حيوية ولا حراك في ظل تضاؤل القدرات وتقييد الصلاحيات، فالطموح شيء والتنفيذ شيء آخر، والمطالبة شيء وتحقيقها شيء آخر.
يقول البازعي: «مَنْ يرد أن يعمل فلا شك أنه يريد أيضاً أن تتوافر له الإمكانات»، فإن لم تتوافر، فسنظل شهداء على نكوص تلو الآخر.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7712 ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
lamiabaeshen@gmail.com