أعتقد أننا نخالف معايير التقويم الموضوعي عندما نختزن مؤثرات ومسوغات وانجازات مرحلة ثقافية حيوية داخل شخصية واحدة، وهي ليست المخالفة الأولى من نوعها فقد ارتكبها المشهد الثقافي عندما اختزن قضية الحداثة داخل شخصية واحدة، واليوم نكرر ذات المخالفة عندما نختزن مرحلة ثقافية حيوية داخل شخصية السبيل.
فتصدّر السبيل لتمثيل مرحلة قيادية ثقافية حيوية هو ظلم؛ ظلم له لأننا سنحمله إخفاقات المرحلة، وظلم لغيره ممن نظّموا معه هذه المرحلة؛ لأننا سنُجيّر نجاحاتها لمصلحة السبيل فقط.
فالسبيل كان جزء من المرحلة وليس هو مؤسس المرحلة أو مبتكرها أو قائدها، وأي إشادة أو مساءلة يجب أن تشمل الفريق الذي نظّم هذه المرحلة بدءا من القرار الإداري ثم وزير الثقافة والإعلام السابق السيد إياد مدني وصولا إلى الدكتور السبيل والدكتور باقادر وفريقهما.
ولذا فعلى من يرغب في تقويم هذه المرحلة وفق معايير الموضوعية أن يعتبر السبيل جزءا من المنظومة الثقافية التي قادت المشهد الثقافي لأربع سنوات وليس باعتباره قائدا لها وهذا ليس تهميشا لدور السبيل بل توضيحا للخارطة التي علينا أن نؤسس من خلالها معايير تقويمنا لمرحلة ثقافية مهمة كان السبيل مجرد جزءا منها وليس منظِما لها كما يعتقد ويروج أصدقاء السبيل والذين استفادوا من مرحلته.
لا شك أن الجميع يتفق على أن الدكتور عبد العزيز السبيل رجل خلوق ومحترم ومؤدب «أكثر من اللازم المطلوب للمسئول الثقافي»!.
لكن دماثة الأخلاق بالنسبة للمسئول مسألة نسبية وليست معيارا تقويميا يحدد في ضوئها مستوى وقيمة مجهوده العملي، أو هكذا أحسب.
ولا أحد يُنكر أن السبيل اليوم يعتبر من أفضل المثقفين المحافظين الجدد، على الساحة الثقافية. وإذا كانت دماثة الأخلاق لا تؤثر في تقويم المجهود العملي للمسئول الثقافي فلاشك أن انتمائه الثقافي يٌعتبر مؤثرا مهما في طريقة تفكيره وقراراته الثقافية،ولذلك علينا أن نُحضّر ذلك الانتماء ونحن نقوّم الأداء الوظيفي للمسئول ثقافي.
نحن السعوديون خاصة والعرب عامة لدينا طريقة خاصة لاستقبال المسئولين وتوديعهم،فنحن نستقبلهم بسلة من الأمنيات التي تجمع ما يمكن تحقيقه وما لا يمكن تحقيقه، وما يتفق مع إمكانيات الواقع وظرفياته وما لا يتفق مع ذلك الواقع، وحينا مالا يتفق مع الانتماءات الفكرية والسياسية للمسئول ذاته بصرف النظر عن إمكانية مرونة الواقع والخطاب السياسيين للمجتمع.
وعند توديعهم ينقسم المستقبلون إلى قسمين؛ قسم يودع المسئول «بباقات الورد» وقسم يودعه «بالطوب والبيض والطماطم والأحذية».
والقسم الأول عادة هو الذي استفاد من المسئول ومرحلته، والقسم الثاني هو الذي فشل في الاستفادة من المسئول ومرحلته، وما بين أسلوبي «الورد والحجر» تضيع موضوعية تقويم الأداء الوظيفي للمسئول،وحينا يكون تمويه الموضوعية أمراً مقصوداً لتجنب المسئول المساءلة والمحاكمة.
واليوم المشهد الثقافي وهو يودع الدكتور السبيل كمسئول ثقافي تغلب على لغة الوداع أسلوب المجاملة حينا وأسلوب تصفية الحسابات حينا آخرا، أكثر من لغة التقويم الموضوعي، فكل الأقلام التي تودع السبيل بباقات من الورد هم أصدقاء السبيل، وكل الذين يقذونه بالحجر والبيض في الكواليس هم من أعداء السبيل «المسئول الثقافي».
وهكذا تختلف وجهات النظر فيما قدمه السبيل من انجازات ثقافية «فأصدقاء» السبيل أو الذين استفادوا من مرحلته جعلوه رمزا تنويريا ثقافيا وكأنه «أتى بما لم يأتِ به الأوائل»، وأعداؤه أو الذين فشلوا في الاستفادة الثقافية من مرحلته جردوا مجهوداته الثقافية من أي قيمة إنجازية والبعض اعتبر إنتاجات المرحلة الثقافية التي قادها السبيل مُخالِفة للأعراف الثقافية للمجتمع وتدعيم للخطاب الثقافي العلماني والليبرالي. وبين وجهتي النظر المختلفتين تغيب معايير التقويم الموضوعي.
ولو تأملنا المرحلة التي سبقت وزارة السيد إياد مدني ووكيليه السبيل وباقادر سنلاحظ أنها كانت مرحلة تحظى بمشهد ثقافي يتميز «بفوضى حيوية» فالمشهد الثقافي بدأ يتحرر من قيوده الكلاسيكية وارتفاع صوت الرواية بدأ يثير ضجيجا خلاّقا ويفتح الباب على مصراعيه لممارسة التجريب الحكائي وتجاوز عقدة التابوات والعولمة الثقافية بدأت تغزوا المشهد الثقافي السعودي، إضافة إلى وجود حركة ثقافية نشطة تقودها بعض الأندية الأدبية الكبرى والملتقيات الثقافية وظهور جيل من المثقفين والمثقفات الشباب سواء على مستوى الإبداع أو النقد، ونضوج المثقفة السعودية وفرض وجودها على المشهد الثقافي.
كل تلك التطورات الثقافية تواكبت مع تغيير في الخطاب السياسي العام للدولة الذي ركز على الإصلاح والحوار الوطني وإعطاء المرأة فرصة لإثبات شخصيتها الإدارية والثقافية والفكرية وارتفاع لا بأس به لسقف الحرية الثقافية.
وكان من الطبيعي أن أي وزارة للثقافة ستأتي لقيادة هذا المشهد لا بد أن تستفيد من تلك الفوضى الخلاقة في تدشين انجازاتها وتأسيس قرارات ثقافية تُؤّرخها ثقافيا.
وأنا هنا أذكّر بخصائص المشهد الثقافي قبل مرحلة السبيل كمسئول ثقافي لتوضيح نقطة مهمة وهي أن وزارة الثقافة في عهد السادة إياد مدني والسبيل وباقادر ليس لها فضل إلا في تنظيم تلك الفوضى الخلاقة أو «رسّمنة الفوضى» وأي حديث خارج إطار ذلك التنظيم وفوائده وآثاره أحسبه من قبيل المبالغة.
كما أن التنظيمات الثقافية التي ترسّمت في عهد السيد إياد المدني في مجال المسرح والخط العربي والفنون التشكيلية كانت بفضل متطلبات المرحلة وليس بفضل الوعي الثقافي للمسئول الثقافي وإن كنا لا نبخسه فضل الاستجابة والتنفيذ،ونتحفظ على غياب إستراتيجية الانجاز والنجاح.
كما أننا لا نستطيع أن نُنكر دور وزارة الثقافة في عهد السيد إياد مدني ووكيليه في نقل نشاط المشهد الثقافي من المحلية إلى العربية والدولية وهو منجز يُحسب للوزارة برعاية الدكتور باقادر رغم بعض التحفظات على طرق ذلك النقل واختيار الأسماء الممثِلة لتلك الأنشطة.
واليوم ونحن نقوّم قيادة ثقافية مضت وأصبحت تحتل عنوان «سابقا» قادت المشهد الثقافي السعودي لمرحلة تعتبر من أهم مراحل المشهد الثقافي في التاريخ الثقافي السعودي الحديث،لابد أن نسأل على مستوى نطاق عام، هل استطاعت تلك القيادة أن تستثمر الفوضى الخلاقة للمشهد الثقافي في انجازات ثقافية تنويرية؟
أم أنها أعادت سلسلته بطريقتها الخاصة؟ هل استطاعت تلك القيادة أن تحقق طموحات المثقفين الممكنة؟ أم أنها سارت وفق طموحات القائمين عليها وانتماءهم الثقافي؟.
عندما نُقيس المكتسبات بالمؤثرات والمتطلبات والخامات سنجد أن وزارة الثقافة في عهد السبيل لم تحقق الشيء الكثير بل تكاد لم تحقق أي شيء على مستوى «العقل الثقافي» فقد أخفقت في رسمنة وثيقة الانتخابات الثقافية، وأخفقت في رسمنة عضوية المثقفة داخل الأندية الأدبية، وأخفقت في رسمنة مشروع المراكز الثقافية، وأخفقت في رسمنة صندوق الأدباء، وأخفقت في رسمنة اتحاد للكتّاب،وأخفقت في رسمنّة لائحة الأندية الأدبية، وفي ضوء تلك الإخفاقات ما الذي حققته الوزارة في عهد السادة إياد مدني والسبيل وباقادر على المستوى الثقافي؟.
حسبما أرى لم تحقق أي شيء على مستوى الإضافة وخارج نطاق تنظيم البيت الثقافي، أما تأثيثه فالاختلاف مازال مستمرا على نوعية طريقة التأثيث وقيمتها.
لقد كّرست وزارة الثقافة في عهد السادة إياد مدني والسبيل وباقادر التمييز ضد المثقفة في الأندية الأدبية عن طريق اللجان النسائية، كما كرست سلطة المحافظين الجدد من المثقفين على قنوات المشهد الثقافي ومجالس الأندية الأدبية،وسنّت نظام التعيين في مجالس الأندية الأدبية والذي أصبح اليوم أشبه بولاية الفقيه،ولا ندري هل هناك أمل في التخلص من هذه السنة أم لا.
وعلى نطاق خاص هل استطاع السبيل أن يكون عرابا للمثقفين كما يروج لذلك أصدقاؤه والذين استفادوا ثقافيا من مرحلته؟.
كما قلت سابقا أن السبيل هو جزء من منظومة القيادة الثقافية إضافة إلى القرار الإداري وطبيعة الخطاب والتوجهات الفكرية لبقية المسئولين الثقافيين،فلم يكن صاحب سلطة ليتحكم في القرار لنشكره على ما قُدّم أو نعاتبه على الإخفاق والقصور، فهو مثل أي مسئول ثقافي مقيد بظرفيات اجتماعية وسياسية ودينية واقتصادية تحدد سقف طموحه الثقافي وحركة انجازه،وما تحقق على يد السبيل كان سيتحقق على يد أي مسئول آخر لأن المرحلة ألزمت المسئول الثقافي بتنفيذه.
لكني أعتقد أن السبيل كان بإمكانه أن يقدم انجازا ثقافيا تنويريا مُثريا ومختلفا؛ لأنه يملك القدرة الفكرية على تأسيس المشروع الثقافي التنويري كما أنه يمتلك موهبة الإدارة الثقافية لو كان يتحلى بالجرأة والمغامرة الثقافيتين، وهذه مشكلة عامة عند المثقفين من المحافظين الجدد لدينا وليست عند السبيل فقط.
لقد قدم السبيل باستقالته درسا لكل مسئول ثقافي، بأن يتحلى بشجاعة الترجّل عندما يكتشف عجزه عن تقديم الأفضل وأنه لم يعدّ يملك من الإمكانيات والقدرات والطاقات ما توفر له تحقيق انجاز مؤثِر ومحترم، أو أن الظروف التي تحيطه به تعيقه عن تحقيق مشروعه التطويري، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
كما أعتقد أن المراهنة على الوكيل القادم يجب أن تكون محسوبة جدا وسلة طموحات المثقفين التي ستُقدم يجب أن تكون محدودة جدا؛ لأن القادم لن يكون أفضل ثقافياً وإدارياً وفكرياً وخلقياً من عبد العزيز السبيل، وإن كنت أتمنى أن يكون أكثر جرأة ومغامرة من السبيل.
على العموم قد أصبح السبيل كمسئول ثقافي مثله مثل السيد إياد مدني وباقادر جزءاً من التاريخ الثقافي السعودي بصرف النظر عن مستوى ونوعية ما قدموه، فالتاريخ يتسع للجميع للناجحين والفاشلين.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7333 ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة