يقول إدوارد سعيد في تعريفه للمثقف أنه "فرد يتمتع بموهبة خاصة تمكنه من حمل رسالة ما، أو تمثيل وجهة نظر ما، أو موقف ما، أو فلسفة ما، أو رأي ما، وتجسيد ذلك والإفصاح عنه إلى مجتمع ما، وتمثيل ذلك باسم هذا المجتمع" وهكذا فإن المثقف شخص يمثل بوضوح موقفاً ورسالةً، ويقدّم صورة إلى الجمهور تؤثر فيهم وتغير أسلوب حياتهم، وتعالج كثيراً من مشكلات واقعهم، وكل هذا يعني أن مهمة المثقف تتطلب منه جهدًا وطاقةً وكفاحًا، للحفاظ على التوازن بين متطلبات الذات والجماعة، وليس مطلوبًا منه أن يكون واعظًا أخلاقيًا، أو داعية مسالمًا في آرائه، مهادنًا في مواقفه، بل إن أشد ما يؤمل فيه أن يتخذ موقفاً واضحاً إزاء مشكلات عصره، وقضايا مجتمعه، موقف الإصرار على رفض الصيغ الجاهزة، والحلول السهلة القائمة على المصالح المتبادلة، فلا يمكن أن يتحول المثقف إلى بيروقراطي حريص؛ ولهذا يختار بعض المثقفين خيار العزلة والانكفاء على الذات، إما مع كتبه، أو مقالاته ودراساته، ويكتفي ببضع أصدقاء يشاركونه الهمِّ الإنساني والثقافي، وعلى الرغم من أن العزلة تمثل هروبًا وتخليًا عن المسؤولية الاجتماعية من النخب الثقافية، إلا أن شعور المثقف بالعجز عن أداء مهامه، أو إيصال رسالته، في وسط وصل الفساد فيه حتى إلى النخب ذاتها، التي أصبحت تبحث عن مصالحها الخاصة فقط، فتجامل هنا وهناك لتحظى سريعاً بالمجد والشهرة، وعندئذٍ يكون خيار العزلة والابتعاد فضيلة، حتى لا يكون شريكًا في هذا الواقع السيئ، فحين نجد الحلقة مفقودة بيننا وبين الوسط الذي ننتمي إليه فالأفضل الانسحاب بهدوء حفاظاً على سلامة العقل والنفس معًا. وإحدى الملاحظات اللافتة في وسطنا الثقافي انتشار العزلة والعزوف عن حضور الفعاليات الثقافية المختلفة، ولكنّ ذلك لا يعني أنّها عزلة من النوع الأول الذي تحدثنا عنه، فتلك كانت نتيجة حتمية لظروف قاسية مارست ضغوطاً على المثقف الصادق فتملكته مشاعر العجز وخيبة الأمل، وفضل الحياة في الظل على الاحتراق في الضوء؛ فالمثقف والمبدع لا يمكن أن يوضع في قالب أو يوجّه إلى مزاولة عمل معين لغرضٍ من الأغراض، فهو لا يقبل أن يكون مثل "الأولاد الطيبين الذين لا يطرحون أسئلةً مزعجة" بحسب تعبير نعوم تشومسكي، وهناك عزلة أخرى يسعى إليها المثقف متوهمًا أنه شخصية غير عادية تستطيع أن تأتي بما لم تستطعه الأوائل، ولا نبالغ في وصف بعضهم بعقدة نقص في شخصيته، يحاول التعويض عنها بتضخيم الذات، وإبراز الأنا بمناسبة ومن دون مناسبة، وتجد هذه الشخصيات تناقض نفسها، فهي تنادي بشيءٍ وفي نفس الوقت تمارس سلوكات تختلف عن طبيعة ثقافتها ومنهجها، وتعمل دومًا بمبدأ (نحن)، أما الآخرون فعليهم أن يثبتوا صلاحيتهم ليصلوا إلى مكانتهم. إنّ ما يطرحه بعض من يصنفون أنفسهم مثقفين دون سواهم، أو مبدعين دون غيرهم، باسم الإبداع تارة، وباسم الوطن تارة أخرى، وباسم الحرية ثالثة، وبعبارات جاهزة ليس فيها جديد ذو قيمة، يثيرون غبارًا يلوث جو الثقافة ويفسد رئة المتلقين، ويكفي لبيان ذلك رصد ما يتكرر على صفحات ملاحقنا الثقافية، وصحفنا اليومية من محاولات بائسة لتبرير عزوف الجماهير عن الفعاليات الثقافية، أو الشكوى المتكررة من تهميش المبدعين والمبدعات، أو الشللية في اختيار فئة على حساب الأخرى، من دون التفكير للحظة بالبحث عن الأسباب، ودراستها لإيجاد حلول جذرية لها، وإن كنت أرى أن أغلب تلك المشكلات من صنع المثقفين أنفسهم، فمن جالس بعضهم - ولن أقول معظمهم حتى لا تبدو الصورة قاتمة- سيسمع العجب العجاب، فمنهم من تصوّر له ذاته المتضخمة أن مشاركته في بعض الأنشطة الثقافية لا تناسب مقامه، وأنّ على الجهة المنظمة أن توجّه له دعوة خاصة أو تلّح عليه بالرجاء للحضور - فهو ليس كغيره- أما الآخر الذي حضر فيقيم الدنيا على المنسقين الذين وضعوا اسمه في قائمة المشاركين بعد اسم يراه - بمنظوره- أقل منه، وتلتفت لترى تلك المبدعة تعترض على اختيار أخرى في مشاركة هي أحق بها منها، وإن قدّر لك حضور الفعاليات فستكون شاهدًا على التزام المثقفين بالموعد المخصص لبدء المحاضرة أو الأمسية، وعليك ألا تتذمر من تأخر ذلك المبدع أو تلك الأديبة، لأننا ببساطة شعب فقد احترام الوقت، وسيدهشك غياب كثير وكثيرات عن الحضور، وفي اليوم التالي تقرأ على صفحات الجرائد رأيها ورأيه في تلك الفعالية!! عندها فقط لن تلوم من فضّل العزلة، بل إنك تتمنى لو اعتزلت هذه الفئة حفاظاً على ما تبقى من وهج الثقافة وجمالها. متى سنعي إلى أن النخب الثقافية حقًا هي التي تقدّم عطاءها لخدمة الثقافة، وتجديد الإبداع؛ للتفاعل مع الآخرين في أوسع الحدود، وليست إبرازاً للذات واختزالاً للثقافة في الوجاهة وحب الظهور؟ (فمتى بلغ المثقف موقع الرائد صاحب العطاء الذي لا يكذب أهله كان مفكرًا فذًا)، وإن سقط في التنظير وحاد سلوكه عن الآمال المعقودة فيه، واتخذ من نفوذه سلطة للمساومة على عطاءاته، وأدار ظهره لأقرب الناس إليه، فما ذاك بالمثقف وليست تلك الريادة التي نريد، عليهم نزع الأقنعة، للظهور أمامنا بصورة المثقف الصادق؛ ليبقى للثقافة ما تقدمه للأجيال القادمة.
جدة