ظلّت الجزيرة العربية، ومنذ العصر الأمويّ، مغلقة على نفسها، معزولة غالبًا عن العالم، ولاسيما في وسطها، لأسباب سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. فأصبحت وإذ حالتها المعرفيّة والاجتماعيّة أسوأ ممّا كانت عليه في الجاهليّة، وظلّت الحالة تزداد بها سوءًا كلّما أوغلت في الزمن وأوغل الزمن بها، كما ازداد العِلم بما يدور في بواديها، وبيدها، بُعدًا وغموضًا واضطرابًا. ولذا لم يكن عِلم من رَووا الشِّعر عن العرب، ودوّنوا أخبار الحياة في الجزيرة، وهم قارّون في البصرة أو الكوفة أو بلاد فارس، بأحسن حالاً من عِلم بعض المستشرقين في العصر الحديث. بل إن مِن هؤلاء الأخيرين مَن غامروا باقتحام البيئة العربيّة، للاطّلاع على حياة الناس وخبايا مجتمعهم عن كَثَب، وإنْ بَقِيَت التصوّرات النمطيّة السابقة غالبة على أذهانهم طاغية على مآلاتهم إلى الاستنتاج. وتُمكن الإشارة هنا إلى الليدي آن بلنت (1837- 1917م) Lady Anne Blunt، على سبيل المثال، من خلال كتابها (سيرة ذاتيّة) A Biography، وتُعدّ أوّل امرأة غربيّة قامت برحلةٍ إلى وسط الجزيرة العربيّة. فمع أن هذه السيّدة الإنجليزيّة قد زارت ابن رشيد في حائل، سنة 1879م، وعَرَفتْ - أو قُل حاولت جادّة أن تعرف - المجتمع العربي هناك عن قرب، ومع أنه قد أتاح لها كونُها امرأة الولوج إلى عالم المرأة العربيّة، فحكت عن مناقشاتها مع النسوة هناك، في مسعًى للتعرّف على حياتهنّ وطرائق تفكيرهنّ، فقد بقيتْ عقليّتها الغربيّة مسيطرة على تصوّراتها العامّة وأحكامها الخاصّة، حتى لقد خُيّل إليها أن مجتمع الجزيرة يعيش هكذا بلا هموم تؤرّقه - وذلك لأن الهموم إنما تأخذها من وجهة نظرها كغربيّةٍ واهتماماتها كباحثة - بل إن العرب في الجزيرة، كما توهّمتْ، بلا تفكيرٍ في الكون ولا في الماضي ولا في الحاضر، فما هم بأكثر من مجتمعٍ بدائيٍّ ساذج، بلا حياةٍ فكريّة أو وجدانيّة. وشبيهٌ بذلك ما نجد عليه تصوّراتنا العامّة الغالبة عن حياة العرب القُدامى وفكرهم وأدبهم، المستقاة عن الروايات والأخبار وشروح الشِّعر السطحيّة، التي جاءتنا وطمّتنا عن شُرّاح المعلّقات والشِّعر الجاهلي من العَجَم وأشباههم، ممّن عاشوا خارج الجزيرة، لا يعرفون عنها سوى ما يسمعون - ولو من روايةٍ عن مجنون! - أو ما نُقل إليهم، روايةً عن رواية أو كتابة عن كتابة عن رواية.
وقد أوردتُ هذا التمثيل بالليدي بلنت لأقارن بين حالة هؤلاء الذين يَفِدُون إلى الجزيرة في العصر الحديث، ويتبيّنون حياة الناس عن غير وسائط، ويسعون إلى مشاهدة الحقائق بأنفسهم، والتعرّف على أدقّ شؤون الحياة العربيّة - ومع ذلك يُطلقون الأحكام الغريبة على مجتمعنا وحياتنا الفكريّة؛ وما ذلك إلاّ لأن الإنسان ابن بيئته الأُولى - وبين أولئك الذين لم يَفِدُوا إلى الجزيرة قط، وإنما كانوا يتسقّطون أخبارها عن الأعراب، ويسترفدون أنباءها عن تُجّار الأشعار، ويستندون في عِلمهم على رواياتٍ، يعلم الله وحده بأحوالها. فأيّ الفريقين أحرى بأن يكون إلى المعرفة والعِلم أقرب؟! ودع عنك تلك المبالغات المسرفة في تصوير رحيل علماء اللغة للعيش بين قبائل العرب، وهم - إنْ صحّ القول - إنما عاشوا لفترات محدودة بين بعض العشائر العربيّة الشماليّة، المجاورة للعراق، أو حتى في داخل العراق، ولم يتوغّلوا في رحلاتهم إلى مواطن العرب في أرجاء الجزيرة، وأنّى لهم ذلك؟ فلا الطرق كانت مأمونة، ولا الظروف كانت مواتية، ولا الوعي بأهميّة ذلك كان قائمًا، وليس ما يسوقونه في كتبهم من تناقضات غير يسيرة - حاروا فيها السبيلَ، هُم قبل غيرهم - إلاّ شواهد على أنهم نَقَلَةٌ لِما يسمعون، لا أكثر. فلا شكّ، والحالة هذه، أن الجهل بحياة العرب، وفكرهم، وعقائدهم، وتاريخهم، وجغرافيّة بلدانهم، كان لدى كثير من علماء اللغة الأوائل أكبر منه لدى بعض الرحّالة من المستشرقين في العصر الحديث. كما أن بيئات العربيّة من التنوّع والثراء بحيث لا يمكن منهجيًّا أن تختزلها المعرفة ببيئة قبيلةٍ من العرب، أو عشيرة من عشائرهم، ليُكتفَى بتلك المعرفة القاصرة والاستقراء الأبتر، فيُبنى عليه تصوّرات قياسيّة عن حياة العرب، لا المعاصرين للراوي فحسب، بل أيضًا عبر تاريخهم القديم، وبلدانهم الشتّى، وفوق ذلك لفهم ما جاء في أدبهم، أو جاء به أدبهم.
أضف إلى هذا طامّة أخرى، هي ضعف كثيرٍ من علمائنا الأجلاّء هؤلاء في الوعي بطبيعة ذلك الفنّ الذي يسمّى (الشِّعر)، من حيث هو شِعر، أي لا من حيث سياقه الثقافيّ فحسب، وإنما كذلك من حيث هو جنس أدبيّ، ذو لغة بالغة الخصوصيّة، حمّالة أوجه، تحتاج إلى استبطان وتأويل، لا إلى شرح، ثم من حيث هو ديوان حياةٍ، بما تعنيه الكلمة من معنى، وبما يتطلّبه لذلك من استنطاق. فالشِّعر ليس محض ما فَقِهوا من أنه (كلام موزون مقفّى له معنى)، بحسب مفهومهم العجيب للشِّعر، ولا بسطحيّة ما فهموا عن كونه (ديوان العرب)، فأخذوا يفتّشون عن دوالّ ذلك الديوان - بدءًا من المعنى المعجميّ لكلمة (ديوان)، المرتبط بالتقييد والتدوين الحرفيّ للمعلومات - وعلى ظاهر ذلك تناهَى وعيُهم المتوارث باللغة وفنّ الشِّعر. ليست القصيدة - كما غلب على نحائزهم - مجرد رسالة نثريّة، كلّما هنالك فيها من اختلاف أنها منظومة على تفعيلات موزونة، ولها قوافٍ منتظمة، وفيها مجازات أشبه بالحقائق، وكأنها وثيقة عن وقائع تاريخيّة، وأسماء واقعيّة، وسِيَر ذاتيّة، ملغين بتعاملهم ذاك طبيعة الشِّعر عن الشِّعر، مخطئين المقصد الدقيق وراء مقولة (ديوان العرب). فخَلَف من بعدهم خَلْفٌ تَبَابِعَة، غاية هِمّتهم حفظ ما قيل، ونقله لمن بعدهم، سلّموا بما دوّن الأوائل، وقدّسوا أعمالهم، وردّدوا ما قرّر شرّاحهم، ولغويوهم، ومعجميوهم، ونُحَاتُهم، وبلدانيّوهم، واطمأنّوا إلى ما انتهوا إليه على أنه غاية العِلم والتحقيق والقراءة والفهم، وإنْ ناقض نواميس اللغة، والشِّعريّة، بل عارض المعلومات التاريخيّة، ومنطق العقل ومنهج العِلم، وما جَدَّ من حقائق وظَهَر من مكتشفات. حتى أضحى من أراد أن يراجع قراءة ذلك التراث اليوم، فيسبر أغوار مخاتلاته الدلاليّة، ليقدّم قراءات تأويليّة، تضع النصّ حيث ينبغي له من سياقه الأجناسي، وحيث ينبغي أن يُقرأ في سياقة الزماني، وسياقه الثقافي، ثم يختبر أنساقه المضمرة، ورموزه الدينيّة - التي توارثتها الأُمم، منذ روحانيّات عنخ آتن في مصر، ومن قَبْلَه أو بَعْدَه، في امتداد الديانات الشمسيّة المتداولة بين حضارات اليمن والعراق والشام والجزيرة العربيّة - متصادمًا مع ذهنيّاتٍ بُرمجت على أن التراث العربي مكتملٌ، ومصمتٌ، لم يؤثّر ولم يتأثّر، بل لا صِلة له بحياة أهله أنفسهم، وليس بديوانهم، وإنما هو كلام موزون مقفى، له معنى، ومعناه إمّا في بطن الشاعر، أو في ظَهره، وهو في حالته الأخيرة هذه معنى إسلاميّ ظاهر، وإن قيل قبل ظهور الإسلام! وكذلك سيواجه الدارس من العنت إنْ حاول أن يسبر رموز ذلك الشِّعر السياسيّة؛ وضفيرة الحراك الدينيّ والسياسيّ كانت تنوس في المجتمعات البشريّة منذ الأزل، مؤثّرة في آدابها، بل كانت الآداب لسان تلك الضفيرة ومنبر خطابها. وبالجملة فإنها إن تراءت للدارس شياطين في الشِّعر الجاهليّ من الدلالات والإشارات، فوق ما رآه شيوخ شراحه الأوّلون، ولاسيما إنْ أزّته تلك الشياطين إلى ربطه بواقع الثقافة الوثنيّة القديمة، ومكتشفات الآثار والأحافير الحديثة، وقرائن الميثولوجيا والأنثروبولوجيا، فلا يلومنّ إلاّ نفسه؛ لأنه سيبوء بإثم ما اقترف، وسيستحقّ عليه أن يُرمَى بالخروج على إجماع الأُمّة، وعن المتّفق عليه في أسفارها المقدّسة؛ لا لأنه قال ما لم يقله الأوائل بالضرورة، وهذا في ذاته جرمٌ كافٍ للإدانة؛ بل لأنّ ذلك سيغيّر مجرى ما استقرّ في الأذهان، وركنتْ إليه التخرّصات عن ثقافة العرب، التي يُراد أن تُضفَى عليها قداسة ما، هكذا ضربة لازب. ومن ثَمّ فإن إعادة قراءة التراث وفق اجتهادات مختلفة عمّا حُفظ في كتاتيب التراث، ونُشِر في كراريسه الصفراء، ورُسّخ في عقول تلاميذه، هو أخطر على صاحبه - من قِبل تلك العقليّة - وأشدّ إنكارًا، من باحثٍ آخر قد يتطرّق إلى قضايا الحداثة، ومدارس الأدب والنقد الحديثة. وهذا الخَطَر الأيديولوجي يضاف إلى صعوبةٍ موضوعيّة، تَنشأ عن معضلات الباحث إذ يحاول نَفْض ذلك الغبار المتراكم، المتلبّد المتبلّد، حيث يجد نفسه أمام تراثٍ شِعري أو مشعرن، قد حوصرت طاقاته الفنّيّة، ووظائفه الدلاليّة، وحُذف منه وأضيف إليه، ثم ضُرب دونه سياجٌ من التتفيه لمراميه، والتسطيح لخياليّة قائليه؛ لأن مَن تعاملوا معه وبه، منذ القرن الثاني الهجري، إنما فعلوا ذلك على أنه (كلام)، (مجرد كلام)، فيه بلاغة، نعم، وفيه موسيقى، لكنه في نهاية المطاف لا يعدو كونه وثيقة إعلاميّة مباشرة، كالنثر سواء بسواء، لا ظاهر له ولا باطن، ولا إشارة فيه ولا رمز، ولا أبعاد دينيّة فيه، ولا حمولات أسطوريّة، ولا دينيّة، ولا حضاريّة، ولا يحزنون! وما علينا، إذن، إلاّ فتح المعاجم اللغويّة، لشرح مفردات الشاعر، واحدة واحدة، ثم الربط بينها بحسب نظام الإعراب العربيّ الذي صنعه النحاة، واختلقوا له أحيانًا الشواهد إن لم يجدوها، لنعرف مستقرّ كلّ كلمة إلى أختها، ومن هناك تَخَيُّل حياة العرب، وخطاب الشاعر، كما يسعفنا به نمطنا المخياليّ، أو حتى كما نهوى أن نقول إن العرب كانوا عليه من القِيَم الثقافيّة، أو كما نعرف من واقعنا القريب، الذي لا نعرف - أو لا نطيق أن نعرف - غيره؛ لأن الشعراء بحسب هذا الخطاب المعلّب يقولون ما يفعلون، جاهليّين أو إسلاميّين. تلك كلّ الشعريّة، وخطابنا الشِّعريّ قبل أكثر من ألف سنة هو كخطابنا الشِّعريّ اليوم .. وما أشبه الليلة بالبارحة! وللإجابة عن سؤال العنوان، نقول: إن شِعر العرب كان حقًّا ديوانهم. لكنه ديوانهم بما هو: شِعر، يتطلّب قراءة محايثة مستبصرة، وليس بمحض وثيقة منظومة، كما أُريدَ له أن يكون، إمّا جهلاً، أو عِيًّا، أو تسخيرًا له في سبيل علوم أخرى .. فلا شِعرنا أبقيناه شِعرًا، ولا ديوان العرب المنشود حصّلناه!
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http: - alfaify.cjb.net