يطرح المشهد الثقافي العربي أسئلة عديدة تتمحور مجملها حول سبل الخروج بهذا المشهد من حالة الهامشية التي يحياها في المشهد الثقافي الإنساني من جهة، ومن حالة الركود التي تهيمن على فعل الإبداع داخله من جهة أخرى.
ويكمن الحل حسب اعتقادنا في ضرورة أن يتحمل الفاعلون داخل هذا المشهد عملية مراجعة ثلاث مسائل كبرى، أولها مسألة التعامل مع ما يعتبر من مسلَّمات هذا المشهد، التي كادت أن تتحول إلى مقدس يُتّهم من يحاول الخروج عنها أو نقدها، وهنا لا بد من التنويه بما يحدث في الجانب الآخر من العالم الذي تترى فيه الكتابات الناقدة للحداثة والتنوير، دون أن يتعرض الناقدون إلى (التخوين والاتهامات الجزافية). فهل استطاع المثقفون العرب الرجوع إلى هذه المسلَّمات نقدا وتمحيصا دون الخشية من النتيجة، التي قد تكون مؤيدة لهذه الأفكار؟ وهنا أكتفي بالإشارة إلى ما كتبه ريجيس دوبري في كتابه الأخير (الأنوار التي تعمي) من أن طرح هذه المواضيع لا يهدف إلى تقديم دروس أو عقيدة جديدة، ولكن (حتى نتجنب غدا أن نحرق النموذج الجمهوري المثال الذي أحببناه بالأمس...) (ص8).
المسألة الثانية هي مسألة الارتباط بين الثقافي والسياسي، وسعي السياسي إلى الهيمنة على الأدبي وقتل كل إمكان للاستقلالية، من منطلق أن ذلك خروج عن الإجماع. وهو موقف يحرم مجتمعاتنا من توظيف الطاقات المختلفة في إحياء الحياة الفكرية والثقافية بصرف النظر عن ولاءاتها السياسية، وبالتالي يؤسس (لميز) خطير داخل هذه الثقافة، يحول الرموز الوطنية لكل مجتمع إلى رموز محل نزاع يختفي معه كل إجماع حولها، فإن يحرم مثلا أكاديمي أو أديب من المشاركة في لجنة تنظيم احتفال في ذكرى محمود درويش أو نزار القباني أو أبي القاسم الشابي لأنه يخالف الخط الرسمي للسياسي يؤدي إلى قتل كل إمكانات التطور داخل ثقافتنا؛ لأن السؤال الصلة هنا: كيف يمكن أن نحتفل بمبدع ونحاصر مبدعاً آخر؟
لا يمكن للثقافة أن تتطور في ربوعنا ما دمنا نخلط بين السياسي والثقافي فنرفض الإبداع لغياب الولاء؛ لأننا بذلك نكون كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، أي لا ندرك الإبداع غايتنا، ولا نحفظ وسيلتنا لذلك.
تذكر كتب السير والتراث أن عبدالملك بن مروان الخليفة الأموي كان أديباً، وكان مولعاً بالأدب والأدباء إلى درجة قد يغير معها موقفه السياسي لإعجابه بموقف أدبي أو حيلة من أديب يخالفه الرأي، وقد جيء له يوماً بشاعر خارجي قال بيتاً من الشعر نسب فيه إمارة المؤمنين إلى شبيب إذ قال (ومنا أميرُ المؤمنين شبيب). وشبيب هو قائد الخوارج الذي أخرج الحجاج من الكوفة إنفاذاً لقسم زوجته غزالة التي صارت بعدها مضرب مثل في الجبن في القول المأثور هلاّ برزت لغزالة في الوغى أم كان قلبك في جناحي طائر، فلما أدخل الشاعر على عبدالملك وأدرك أنه هالك لا محالة أبدل الرفع الذي يجعل قوله أمير المؤمنين في موضع مبتدأ ويقصد منه شبيب إلى موضع (نصب) جعلت أمير المؤمنين في موضع المنادى كأنه قصد به توجيه النداء إلى الخليفة آنذاك عبدالملك بن مروان بأن شبيباً منهم، فلما فعل ذلك أعجب عبدالملك بأدبه وعفا عنه.
قد لا يكون بين الأمرين وجه قياس لاختلاف الإطار، غير أن العبرة هنا في هذا الاختلاف. فقد كان الأولى بدولة المواطنة أن تقدر الأدب أكثر من دولة الرعايا، وأن تنظر إلى الإبداع لا إلى الولاء، وهو عين ما هو قائم في المجتمعات الأوروبية باستثناء بعض الحالات، التي تسمى سقطات محدودة كسقطة فرنسا التي حرمت الأمة الفرنسية من تكريم أحد أبرز رموزها الفكرية التكريم الذي يستحق وهو رجاء غارودي بسبب إسلامه وإنكاره للمحرقة، غير أن هذه السقطات القليلة عندهم هي ديدن المؤسسات الرسمية عندنا. ولا يسعنا هنا إلا تذكر قول الشاعر (قد أسمعت لو ناديت حياّ). أما (ثالثة الأثافي) أو المسألة الأخيرة المطروحة للمراجعة، فهي الفصل بين عملية النقد والموقف الأيديولوجي من المنقود. ولا محيص لنا هنا من عقد مقارنة بين مشهدين: واحد من زمن الانحطاط وآخر من زمن الازدهار الأدبي مثل المقارنة السابقة حتى ندرك الفرق، هذا المشهد الجامع في الحدث والمختلف في الزمان يتعلق بقضية نقد الإنتاج الأدبي، بصرف النظر عن موقف صاحبه الفكري والعقائدي؛ لأن ما أنتجه ملك للمجتمع الذي ينتمي إليه أولاً، وملك للبشرية في عموميتها. وهذا السلوك غائب عن مدارسنا النقدية إلا قليلا، ويغلب على مذاهب النقد عندنا البحث في الخلفيات الفكرية والأيديولوجية للكاتب، بما يحول دون قراءة موضوعية لما كتب، قد يستفيد من بعض وجوهها الناس جميعا.
وفي المقابل تحضرنا مواقف من السير القديمة والتراث تؤكد وعي أصحابها وإدراكهم لقيمة ما يقرؤون أو يسمعون، ولعل موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من شعر امرئ القيس حين سئل عنه خير دليل على ذلك، فقد قال هو سيدهم في الدنيا وقائدهم إلى الجحيم. أي أن الموقف من عقيدته لم يغمطه حقه. وهو الموقف ذاته تقريبا الذي مارسه الرسول مع كعب بن زهير حين ألقى بين يديه قصيدته التي عرفت فيما بعد بالبردة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعجب بها حتى خلع عليه بردته، ولم يحاسبه على المطلع الغزلي للقصيدة، ولا النسيب ولا التشبيب؛ لأن ذلك كان من سنن قول الشعر عند العرب وقتها.
فهل نحن قادرون؟.. الجواب بالنفي يتناقض حتما مع صفة المثقف وواجبه؛ لهذا وجب علينا أن نرفع صوتنا عاليا: نعم نحن قادرون بشرط أن (لا نبقى مكتوفي الأيدي، ندعو ألا يكون هذا الغد شبيها بالأمس، دون أن نطرح المواضيع التي تزعجنا..) بحسب تعبير دوبري مرة أخرى.
تونس
باحث جامعي في قسم الحضارة العربية جامعة منوبة