هناك تعبير جميل أطلقه الكاتب المصري الراحل (أحمد بهاء الدين) عن صعوبة الثقافة عند الناس يقول فيه (الرحمة الثقافية)!

وهذه الرحمة تعنى أن الله الذي أعطى المثقف والكاتب الموهبة والفكر والعبقرية فعليه أن يقدمها للناس بشكل مبسط وسهل كي يفهموها ويتعلموها، وهو بذلك يقوم بمهمة الرحمة الثقافية فيرحم القراء من الكتابات المعقدة والأفكار الصعبة جداً.

غير أننى أظن أن زمن (الرحمة الثقافية) قد ولي أو يكاد، فأكثر المثقفين اليوم، أو الذين يدعون كذلك بقراءتهم كتابين أو ثلاثة وادعوا الثقافة، يمارسون عكس نظرية الكاتب بهاء الدين، فالغالبية الساحقة ما يكتب في السنوات الأخيرة هو نوع من (القسوة الثقافية) وليس الرحمة.

بعض الكتاب وهم كثيرون اليوم يعتقدون أنهم كلما صعبت كلاماتهم وتعقدت سطورهم وجملهم ولم يفهمها أحد حتى زملاؤهم المثقفون فهذا يعني أنهم أصبحوا عباقرة، والعباقرة لا يفسرون ما يكتبونه من قضايا فكرية أو شعر أو رواية أو نقد أدبي أو غيرها!

شخصياً أعرف أكثر من مثقف يشعرون بالسعادة البالغة والنشوة عندما تخبرهم أنك لم تفهم الفقرة الأولى مثلاً في مقالهم، فيبتسمون في زهو سخيف ويخبرك بما معناه أن ذلك ليس من مهماته إفهام الناس أو شرح أفكاره!

ولا أتحدث اليوم عن مفكرين كبار أو شعراء عظماء الذين ربما تخونهم الكلمات ويجدون صعوبات حقيقة في تبسيطها، ولكن المشكلة هي مع هؤلاء الذين جاءوا إلى الثقافة ووجدوا فيها فرصة للتعبير عن بعض أمراضهم النفسانية وعقدهم الداخلية.

وعلى عكس هؤلاء يكتب البعض سواء كانوا مثقفين أو كتاب كتابات جميلة وأشعار حلوة وروايات رائعة لكنها مكتوبة بأسلوب بسيط وعميق ومفهوم، لكن تلك البساطة والفهم هما بحد ذاتهما تهمة كبيرة لهذا الكاتب أو المثقف، بل تعتبر عيباً كبيراً، وهي تهمة تكفي أن يحرموا باقي المثقفين من جنة أن يكون كاتباً أو مفكراً، وتعني باختصار أنه غير مثقف لمجرد أنه تجرأ وكتب ببساطة!

البساطة في ظني هي من شروط الكتابة والإبداع الأولي، وهي على رأي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين (هناك كتاب يعقدون المبسط، وهناك كتاب يبسطون المعقد)، وهذا هو حال الكثير من المثقفين العرب اليوم الذين يشعرون بأنه لولا هذه المهمة في التعقيد لما أصبحوا مثقفين أصلاً!

وليتهم يسمعون ما يقول أحد شيوخ الإبداع في العالم وهو الكاتب الروسي الشهير (تولستوي) عندما قال لصحافي في أحد الأيام: (أفكر كإنسان حكيم، وأكتب كإنسان بسيط)!