هناك عشرات المشهورين المظلومين في التاريخ.. فكلما اشتهر شخص بصفات معينة زادوه منها.. وألفوا له من لونها ونوعها وأضافوا له.. فشخصية جحا التي عرفت بالبلاهة والغفلة والسذاجة له آلاف الفكاهات والمواقف بل هناك جحا العربي وجحا التركي، وجحا الألماني! الذي عرف بالقسوة وحب الانتقام والسيطرة, أضافوا إليه قصصا وضربوا به الأمثال، وبالغوا مع أن قصة حياته تقول إنه كان حاكما عادلا حازما لا أكثر.. وعادة الناس أنهم لا يحبون الحزم ولا يرضون بالعدل الذي يحرمهم من خطف مكاسب الآخرين!
ورابعة العدوية التي وصلوا بها إلى درجات لا يصلها بشر.. استغلوا أنها كانت لاهية في شبابها فأرادوا أن يضيفوا إلى توبتها مبالغات، بل أضافوا إلى أشعارها أقوالا تشكك فيها نقاد ومؤرخون فجعلوها تحب الله سبحانه وتعالى لا طمعا في جنته ولا خوفا من ناره.. وهو كلام غير طبيعي وغير منطقي لم يقل به ولا فعله نبي ولا رسول.
أيضا الخنساء وهي نموذج من نساء العرب من حيث القوة والشجاعة والإقدام والصبر على المكاره.. لكن العقلية العربية التي تسعى دائماً إلى تحويل كل أبطال تاريخنا إلى ملامح مختارة وبعيدة عن الواقع شوهت هذا الصبر والتحمل اللذين تتميز بهما الخنساء إلى قوة وصلابة بلا معنى في مواقف تتدفق فيها المرأة بالعاطفة (وعاطفة المرأة ليست ضعفاً كما نتصور، لكنها قوة الحنان، بل قوة الحياة التي ليس عبثا أنها تبدأ وتنمو داخل رحم المرأة).. فكيف استطاعت الخنساء وهي المرأة أن تتجاهل هذه العاطفة العظيمة وتصبح جافة.. ثم كيف نصفق نحن لهذه الصلابة التي هي أولى بالرجال منها للنساء؟؟
والشاعر العظيم أبو العلاء المعري (رهين المحبسين) الذي أضافوا له وعظموه وجعلوا منه إنسانا مظلوما من الناس يحبس نفسه في البيت بعيدا عنهم رغم أنه لم يتزوج ولم ينجب، بل اعتبر مجيئه للحياة جناية لام عليها أباه وطلب أن يكتب على قبره:
هذا جناه أبي علي
وما جنيت على أحد
فأي فخر سخيف هذا من رجل يتعالى بأنه لم يتزوج ولم ينجب.. ولو كان الآن حيا لحملناه إلى مصحة عقلية أو دار للعجزة ولا أقول نحمله حملاً على الزواج.. فتلك سنة الحياة التي رفضها!
وعمر بن أبي ربيعة الشاب الوسيم الثري الشاعر، الذي أحبه قومه وبنات قومه، وكان لرقة شعره وجمال وصفه وانتشاره أثر كبير على تاريخه الأدبي وسيرته الذاتية، فأضافوا إلى قصصه ذلك الغرور الكاذب الذي جعله محبوبا من طرف واحد أي من عشرات الفتيات وليس من طرفه هو..
ولقد أساؤوا إلى الرجل فحولوه إلى تمثال جميل تلتف حوله النساء دون أن يلتفت هو إليهن أو يدري بمشاعرهن أو يعبأ بعواطفهن.. وتلك إهانة لا مثيل لها لرجل جردوه من أحاسيسه ورجولته، وأضافوا إلى شعره ما جعله قمرا مستحيلاً تتقطع دونه رقاب الجميلات، وتتساقط دموعهن تحت ناظريه فيحسبها ماء رقراقا يسر الجالسين.
تلك ضريبة الشهرة.. التي يعاني منها المشهورون حتى وهم أحياء، فما بالنا بهم إذا انقضى زمانهم.. ومضت أيامهم.. وأصبح الفاصل بيننا وبينهم مئات السنين ومئات القصص والحكايات والأوهام!
لقد كان عمر بن أبي ربيعة شاعر رقيقا.. حمله شعره إلينا بعد قرون ليبقى على مر الزمن مقروءا ومغني ومسموعا ومنشورا.. بينما كنس التاريخ آلاف الشعراء من معاصريه وناقديه وحاسديه فراحوا كما يروح الغبار سدى.. لأنهم قالوا كلاماً تافها.. وحاولوا محاولات فاشلة.. ولم يستطيعوا بحسدهم أن يفعلوا أكثر مما تفعل ريح كريهة مرت على حين غفلة من الزمان وذهبت إلى غير عودة!
الخبر