(1)
رائحة الزمن
جالساً على كرسيه الهزاز.. منطلقاً في رحلة بين صفحات كتاب.. داهمه الملل فمنعه متابعة رحلته.
ارتشف قليلاً من القهوة.. دخانها المتصاعد يوحي بأنها مازالت محتفظة بحرارتها..
وضع الكوب جانباً.. أشعل سيجارة.. وضعها بين شفتيه.. زفر دخانها من أنفه وفمه رافعاً رأسه للأعلى في مشهد لا يمكن وصفه إلا بحالة نشوة يداعب فيها أديم وحدته.
امتزجت رائحة القهوة ودخان السيجارة برائحة الماضي المنبعثة من صوت فيروز:
كنا نتلاقى من عشية..
ونقعد على الجسر العتيق
وتنزل على السهل الضباب..
تمحي المدى وتمحي الطريق
يا سنيني إلي رحت ارجعي لي..
ارجعي لي شي مرة ارجعي لي
ونسيني على باب الطفولة..
تا أركض بشمس الطرقات
ارجعي لي شي مرة ارجعي لي
ورجعي لي ضحكاتي إلى راحوا..
رفع نظارته السميكة عن عينيه.. مسحها ثم لبسها مجدداً.. أمعن النظر في المكتبة.. تطلع إليها كأنه يراها لأول مرة.. تقوض صباها، لم تعد فتية كما كانت.. لم يعجبه حالها.. جسدها المترهل تنبعث منه رائحة الزمن.. لا حياة فيها.. لقد بلغت من العمر عتياً.
أبحر بخياله بعيداً.. فكرة جائرة راودته دون إرادة منه..
فكر أن يودعها دار الإيواء.. لقد سئم رعايتها ولا يرغب في الاستمرار معها.. هناك أفضل مكان لمثل حالها.
لكن أنى له بجرأة ليقدم على ذلك؟ هل يقابل إحسانها بالنكران وهي التي أعطته خلاصة روحها ولم يتذكر يوماً أنها بخلت عليه وما زالت تجود..
فهي النهر الذي لا يتوقف والبحر الذي لا ينضب.. عطاءها بلا غش ولا كذب ولا نفاق.. عطاء صادقاً دون مقابل.
أي فكرة طائشة تلك التي راودته؟ وأي قسوة تلك التي قادته إليها؟ إنه الجحود بعينه.. وقف على قدميه.. اتجه صوبها.. يداه ترتجفان كسياف لا يقوى على تنفيذ حكم الإعدام.
تحسسها في محاولة لإصلاحها.. سقطت الأرفف على بعضها.. تناثرت الكتب من كل صوب أمواج متلاطمة.. لا فائدة من إصلاحها.. كأنها ترفض المصالحة.. حمل قطعها إلى المخزن (دار الإيواء) كما كان يطلق عليه.. استبدلها بمكتبة أخرى.
(2)
خط أحمر
كانت واقفة بجانب المؤسسة التي تعمل بها.. بينما الشمس ترسل أشعتها تضيء حبات الكريستال التي تزين عباءتها وغطاء رأسها.. الهواء يأبى إلا أن بفضح شيء من مفاتنها كلما هبت نسائمه.
على كتفها الأيسر استقرت حقيبتها الاعتيادية ككل أنثى، فيما تمسك بمقبض حقيبة جهاز الحاسب الشخصي، يرتفع صوت ضربات كعب حذائها على الرصيف تعبيراً عن مدى السأم والانفعال الذي بدأ يتسلل إلى نفسها.
الرجال قوامون على النساء... نعم قوامة الرجل واقع حتمي وحق يفرضه الدين والعرف والمجتمع.
هنيئاً لكم أيها الرجال هذا الاستحقاق.. في زمن أصبحت قوامتكم لا تتعدى التنفيس عن عقدكم المكبوتة.
أفاقت من تمتمتها على صوت وصول السائق.. ترجل فاتحاً باب السيارة.. أخذ الجهاز منها وما أن استقرت داخل السيارة حتى رشقته بنيرانها.
لم تسأله عن سبب تأخره ولم تعطه فرصة ليعلل ذلك. ظل صامتاً وانطلق بالسيارة فأوصلها دون أن ينبس بنت شفه.
ما أن وصلت البيت حتى صعدت غرفتها.. ألقت بنفسها على السرير.. اعتدلت جالسة..
تحركت يدها نحو تمثال يجسد امرأة يدها تعانق الشمس بشموخ.. كان قد أهداها إياه أيام خطوبتهما.. إنها ذكر باقية كوشم قديم.
انفرجت عن شفتيها ابتسامة ساخرة.. كم كنت غبية.. ساذجة. كانت كلماته كحبات مطر تنساب من السماء فتروي أرض عطشى.. لم لا وهو الكاتب المثقف الأديب.. الكلمات لعبته.. يصوغها ويحركها كيفما يشاء كما يفعل لاعب الشطرنج بقطع اللعبة.. المرأة وحقوقها قيثارة يجيد العزف عليها.. يطربها لترقص فتتعلق به.
شيئاً فشيئاً بدت مرآة الحقيقة تنجلي عن أمور كثيرة كانت متوارية.. بدا بمنطق جاهل وفلسفة عمياء.. حرمني من أبسط حقوقي.. أودعني زنزانة مصفدة.. داس كرامتي.. أرادني جارية.. متناسياً أن زمن الجواري قد ولى بلا رجعة.. طالبته بالطلاق..
قال: لك ما تشائين لكن قد لا تحتملين الثمن..
قالت: مهما يكن الثمن فهذا قراري ولن أتنازل عنه.. ساومها على كل شيء حتى أطفالها لكن لم تكن هناك قوة تردعها عن قرارها.. اختارت الحرية بعد أن أقسمت أن يكون الرجل في حياتها خط أحمر.