أقام النادي الأدبي الثقافي بجدة ضمن مناشطه الثقافية المتنوّعة محاضرة بعنوان (مفاهيم الوسطية) حاضر فيها الدكتور عبد الرحمن الوهابي في محاضرة مركزة ومكثّفة، ويعد الدكتور عبد الرحمن الوهابي من الفئات التي تُعنى باحترام الجانب العقلي عند المثقف العربي، وقد أثارت فيّ المحاضرة نوعاً من الجدل التناقضي النفسي حول هذه الوسطية في عالمنا العربي، وأول هذه الجدليات حول مفهوم الوسطية وإلى أي مدى يمكن لنا أن نعد مفهوم الوسطية مفهوماً ثابتاً في الفكر الإسلامي، موضوعاً له العديد من الضوابط والقيود التي تميّزه في منظومة الإسلام؟ وهل يمكن لنا أن نعد أي شيء وضع بين ضدين بأنه وسط؟ أم أن هناك أبعاداً أخرى تقيد هذا المصطلح، والشيء الذي أراه مهماً هنا هو قضية ينادي بها كثير من الناس- ولا أراها مهمة في بعض القضايا - وهي قضية تحرير المصطلح وتعريفه بشكل جامع مانع، وأقول: إن كان تحرير المصطلح وتعريفه يصدق على بعض المفاهيم؛ فإنه - ولا شك في ذلك - يستعصي على جملة من المفاهيم الأخرى، ومنها مصطلح الوسطية الذي شبهته في مداخلتي بمصطلح الجمال في أن له مدلولات نسبية تختلف من شخص إلى آخر، ومن بيئة إلى أخرى، وقد أشار الدكتور عبد الرحمن إلى أن مفهوم الوسطية مرهون باختلاف الزمان والمكان والشخص، فالذي أراه وسطاً يراه غيري إفراطاً، ويراه آخر تفريطاً، فمن المهم حينئذ أن تكون هناك ضوابط لمعيارية مثل هذه النوعية من المصطلحات، وفي ظني أن هناك نوعين من الوسطية: الأولى وسطية ثابتة راسخة تتسم بالثبات، وهي الوسطية التي تعنى بالمفاهيم العقدية الراسخة التي ترفض الإفراط والتفريط على حد سواء، والثانية وسطية تتسم بالتحول والتغير، تلك هي الوسطية التي لها صلة بالمذهبيات والسلوكيات، وهذا النوع من الوسطية تحكمه أبعاد وأنساق مختلفة ومتغيرة في نفس الوقت.
إن الوسطية بوصفها نسقاً ثقافياً أو وجودياً تتميز بأن لها مفاهيم متعددة يحكمها الإطار السياقي الذي توضع فيه، وكذلك الفئات الثقافية التي تهتم بهذا النوع من السلوكيات الإنسانية.
ومن المهم أن أذكر أن الاهتمام بالوسطية في تلك الفترة ليس نوعاً من أنواع الترف الفكري بقدر ما يمكن عده نوعاً من التحليل النوعي لظاهرة التوسط عند المسلمين خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وقد أشرت - أيضاً - في مداخلتي إلى نوعين من المصطلحات بينهما نوع من التشابك والتقاطع، وهما مصطلح: الاعتدال والوسطية، وإن كنت أرى بينهما عدة فروق أهمها أن الاعتدال يأتي أحياناً ليكون مفسراً لمفهوم الوسطية؛ حيث يمكن عده - أي الاعتدال - نوعاً أو نسقاً من الأنواع التي تشملها مظلات الوسطية، وهذا قريب من تفسير الوسطية في قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطا) أي: عدلا، ويمكن لنا تفسير المصدر هنا بمعنى اسم الفاعل - عادلة - التي تنظر إلى الأشياء وتضعها في نصابها الصحيح.
وكذلك قوله تعالى : (قال أوسطهم ألم أقل لكم لولا تسبحون) أي: أعدلهم في الرأي والمشورة والنظر.
وأنتهز هذه المساحة من الورقة لأكرر ما ذكره شيخي الأستاذ الدكتور تمام حسان - بارك الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية - أن هناك جملة من المفاهيم المتنوّعة في تراثنا الثقافي واللغوي بحاجة إلى إعادة نظر، ومنها مصطلح الوسطية الذي يتميز بالمرونة إلى حد كبير، فمثلاً كلمة الوسطى في قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) اختلف المفسرون حولها بقصرها على وقت معين من أوقات الصلوات دار معظمها حول صلاة العصر، وإن كان مفردة الوسطى - كما يراه شيخي - هنا بناء على فهمنا يعني هنا المتقنة المجودة، وهذا الوصف مطلوب في كل صلاة، وليس مقصوراً على صلاة بعينها.
إن الوسطية - من وجهة نظري - يمكن لنا أن نجدها بين قوله تعالى: (غير المغضوب عليهم) وقوله تعالى: (ولا الضالين)، ويمكن لنا أيضاً أن نتلمسها في كل التعاليم الإسلامية التي تتسم بهذا المفهوم المعتدل، وهو مفهوم يمكن الاتفاق عليه عقلياً.
والوسطية بهذا النسق لا يمكن لها أن تصطدم مع المبادئ الإنسانية أو السلوكية في أي زمان أو مكان، وبهذا النسق أيضاً يمكن الرد على من يزعم أنه لا وسطية عندنا في الفكر الإسلامي؛ لأن هذا الزعم يتهاوى أمام الحقائق الوسطية المقررة في النهج الإسلامي.
إن وسطيتنا المعتدلة جاءت لتقرر لنا منهجاً قويماً في كل حياتنا المختلفة سواء أكان في العادات أم في العبادات.
أستاذ النحو والصرف والعروض / جامعة الملك عبد العزيز
Abeed1974@hotmail.com