انشغل الفكر النقدي عبر عصوره المختلفة بجدل الثنائيات، ومن أهمها ثنائية الشعر والنثر، والتي مثلت إشكالية معقدة ومتشابكة دارت حولها رؤى وأفكار تتجاذب وتتبادل التأثير والتأثر.
من هنا صارت قضية الأجناس الأدبية في العصر الحديث من أبرز القضايا التي انشغلت بها نظرية الأدب، وظهرت منذ ذلك الوقت دراسات قاربت الجنس الأدبي من زوايا متعددة، امتدت على مستوى التنظير والتطبيق من (برونوتير، وهيجل، وجورج لوكاش، مرورًا بميخائيل باختين، وكريزنسكي، وتودوروف، وجيرار جينيت، وغيرهم) كما انتقل الجنس الأدبي من مرحلة الثبات إلى مرحلة التحول والانفتاح، وتداخل الشعر والنثر بشكلٍ دفع بعض النقاد إلى الثورة على نظرية الأجناس الأدبية فنادى (كروتشه) ب (التخلص من مفهوم الجنس ونفيه) وتبعه (موريس بلانشو) و(رولان بارت) في قضية نفي الجنس حيث لا أهمية للحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، فالنص (يتحكم فيه مبدأ التناص واستنساخ الأقوال وإعادة الأفكار وتعدد الإحالات المرجعية التي تعلن موت المؤلف) وفي نفس المنحى ظل الجدل مستمرًا بين النقاد يثير عدة إشكاليات تتعلق بالقضية الأجناسية ولا تنتج إلا الاختلاف.
وإذا انتقلنا إلى النقاد العرب وجدنا بعض الدارسين اهتموا بتاريخ الأجناس والأنواع الأدبية المختلفة، وتتبعوا في مؤلفاتهم خصائص كل نوع، مع ذكر نماذج تمثيلية من الثقافتين العربية والغربية، مثل: محمد مندور في كتابه (الأدب وفنونه) وعز الدين إسماعيل في كتابه (الأدب وفنونه) وعبد المنعم تليمة في كتابه (مقدمة في نظرية الأدب) ومحمد غنيمي هلال في كتابه (الأدب المقارن) وعبد الفتاح كليطو في كتابه (الأدب والغرابة) ورشيد يحياوي في كتابيه (مقدمات في نظرية الأنواع الأدبية) و(شعرية النوع الأدبي) وأصبحت مسألة الأجناس مسألة شائكة ومهمة في الأدب العربي، الذي لم يشهد ظهور أجناس أساسية كالمسرح، والرواية، والقصة القصيرة حتى أواسط القرن التاسع عشر كما أشار الدارسون، وظلت معظم الدراسات تدور حول مفهوم الجنس الأدبي، ومحاولة وضع حدود بين جنسي الشعر والنثر، ومع ذلك لم يتفقوا على دلالات صارمة ومحددة لصياغة خطاب أجناسي يجمع هذه المحاولات ضمن إطار واحد، وقد يكون سبب ذلك الاختلاف -كما فسره بعض النقاد- (ناجمًا عن اضطراب الرؤية العربية إلى الفنون النثرية وعجزها عن قبول فكرة الجنس المزدوج)، واستنادًا إلى هذه المشكلة جاءت (قصيدة النثر) كجنس شاذ لا يشاكل الشعر، ولا يشاكل النثر، مما خلق إشكالية صعبة بين النقاد حول تحديد جنس قصيدة النثر، التي تحمل صفات الشعر وصفات النثر معًا، وما ذلك إلا لأن الشعر ظل سائدًا في الأدب العربي ولم تنافسه الأجناس الحديثة إلا في القرن العشرين، حيث انتعشت فنون السرد والقص نتيجة التطورات الاجتماعية والتحولات السياسية والاقتصادية والثقافية، ولأنه ليس هناك أشكال أدبية نهائية أو ثابتة؛ حدث نوع من التداخل بين الأجناس الأدبية، وصار الشعر بحاجة إلى أساليب جديدة تناسب تحولات الحياة؛ فاستعان بتقنيات السرد والحوار والقص والمونولوج، ولعل أدب جبران خليل جبران يمثل بداية تداخل الشعر والنثر في العصر الحديث، ثم ساهمت تجربة الشعر الحر في توسيع نظرية الأنواع الأدبية عن طريق إدخال التجريب الدرامي وعناصر القصة والسرد والمسرح إلى عالم الشعر، فمهدت لظهور قصيدة النثر التي تعتبر مثالاً واضحًا لما يسمى بالجنس المزدوج أو الهجين، والذي دار حوله جدل كبير بين مؤيد ومعارض، يقول الشاعر الإنجليزي (إليوت):
(إنه ما من شاعر يستطيع أن يكتب قصيدة تأخذ مداها ما لم يكن أستاذًا في النثر)، وهناك من يرى أنها (تأليف بين نقيضين لم يأتلفا من قبل، وهما الشعر والنثر، الشعر بأدواته التي يعتبرونها قيودًا، والنثر بتحرره أو بافتقاره إلى هذه الأدوات)، أما كتابها فيرون أن ذلك التداخل بين النوعين يخلق مزيدًا من الثراء للنص، ويمنحه طاقات تعبيرية مختلفة تتمرد على سطوة الشكل التقليدي، لتمثل نموذجًا مختلطًا يحمل جماليات كل نوع، ولعلّ سمة العصر الذي نعيشه الآن وما فيه من تحولات وتغيرات تجعل مثل هذا التهجين ممكنًا ومبررًا بل قد يكون مطلوبًا في الوقت نفسه.
وأدى انفتاح التجريب الأدبي إلى ظهور أشكال جديدة من الفن الروائي والشعري، وربما كان تجاور الأشكال أو تصالحها في الشكل الجديد هو الفكرة المناسبة لتوصيف ما بعد الحداثة، فتعالق الشعر بالنثر في علاقة تفاعلية تقوم على استفادة كل فن من الآخر لإنتاج نص قادر على مخاطبة المتلقي واستثارته، وفي أدبنا العربي المعاصر أدلة كثيرة على تداخل الأنواع الأدبية وذلك مجال واسع للبحث. وحين يتجاوز مداه تصبح الكتابة متجاوزة الأشكال التقليدية لتتحول إلى مغامرة كتابة يقع فيها التمازج بين الشعر والسرد تعبيرًا عن تلاشي الحدود الفاصلة بين الأجناس الأدبية، وبالطبع كانت الرواية هي الجنس الأقدر على التعبير عن هذا التداخل كشاهد على تناقضات هذا العصر وتداخلاته، حيث أصبحت اللغة الشعرية تشكل علامة بارزة ومهمة في حداثة الرواية العربية إن لم تكن نقطة تحول دالة على انتقالها من التقليدية إلى الرواية الحديثة، فلم تعد لغة الرواية مجرد وظيفة مباشرة للتبليغ، بل تحولت إلى نظام قائم على الإيحاء والرمز، وتعددية الدلالة والانزياح عن مقاطع البنية الروائية، الأمر الذي يجعل المتلقي يهتم بتتبع اللغة الشعرية داخل النص، والتي تفتح أفقًا أكبر للتأويل، وتمارس نوعًا من التأثير الجمالي، والتمويه الذي يخفي وراءه الأبعاد الأيديولوجية كما يقول (باختين) مؤكدًا أنّ الرواية (هي الجنس الوحيد الذي لم يكتمل بعد)، وقد اقترن ظهور اللغة الشعرية في الرواية العربية الحديثة بالأحداث المؤلمة التي شهدها العالم العربي في مرحلة الستينيات، من هزيمة 1967م وما تلاها من انكسارات وخيبات عاشها العرب دفعت الكتاب إلى البحث عن أشكال جديدة تستوعب أفكارهم وآلامهم، وتعبر عن أزماتهم ومشاعرهم، لذا جاءت اللغة في كثير من الروايات رمزية مكثفة، ووصفية توظف المجاز والتشبيه، وتتحول أحيانًا إلى لغة داخلية ذاتية كالمونولوج والتأمل والبوح بالمشاعر الداخلية، وكلها صفات التصقت منذ القدم بلغة الشعر، وتوظيفها داخل النص الروائي يمنح لغة الرواية وهجًا خاصًا.
جدة