وهكذا فإن مرحلة التحول كأول مرحلة من مراحل البرنامج السردي تعتمد على تحول التصور الذهني إلى علاقة سردية.
والعلاقة السردية بدورها تتكون من حدث ذهني وحدث مادي وفعل سردي، أو كما يسميها غريماص (لحظة الإمكان، ولحظة التحيين، ولحظة التحقيق) بحيث تساهم كل منهن في إنتاج بقية مراحل البرنامج السردي، أي الأهلية والإنجاز والجزاء، وكل مرحلة لها وظيفتها في بناء العلاقة السردية المكونة لوحدات الموقف الكتابي.
ولحظة الإمكان ترتبط بمرحلة التحريك والتحول في حين أن لحظة التحين ترتبط بمرحلتي الأهلية والإنجاز، ولحظة التحقيق ترتبط بمرحلة الجزاء.
في الحقيقة أن مفهوم الإمكان في البرنامج السردي عند غريماص مبهم وحيناً يتداخل مع مفهوم التحيين، لذلك حاولت أن أوجد توضيحاً لمفهوم الإمكان كآلية من آليات صناعة الموقف الكتابي.
في البدء رأيت أن أجعله رديفاً للتصور الذهني أو رديفاً لمفهوم الإحالة، لكن عند تحليل عناصر الموقف الكتابي وجدت أن لحظة الإمكان هي سابقة لتكوين التصور الذهني، كما أنها ملحقة بالإحالة، وهو ما يجعل استبعادها عن فكر الرديف لأيٍ من كليهما لازماً.
وهو أمر جعلني أعتقد أن الإمكان هو الوعي النوعي (الرؤية والحدس) الذي ينتج التصور الذهني للموقف الكتابي ويربط الإحالة بالثيمة المخصوصة، ووفق ذلك ينبطق مع فكرة المرجع للمتصور والارتباط مع الإحالة.
وبذلك يظل آلية تحكم بناءً على سيطرته على ثيمة التصور التي تتحكم بدورها في خصوصية النص السردي، وهو ما يتيح إحاطة الموقف الكتابي من خلال السياق السردي (الخبرة الانطولوجية) التي يستهويها الحدس والرؤية، مما يجعل الموقف الكتابي بنية داخلية ذات عناصر محددة ومنتظمة تحيل على نفسها، (جوانية النص) وهي إستراتيجية بنائية تدعمها القراءة النسقية، من خلال إلغاء ثنائية الشكل المضمون لمصلحة (سلطة النية) واصطناع المحايثة، أو عزل الموقف الكتابي عن المؤثّرات الخارجية، والاقتصار على (القوانين الداخلية التي تحكم قيام اللغة بوظائفها الدلالية، وما يتضح في نظمها من مقابلات وتداعيات وتجانس وتنافر) كما يقول صلاح فضل.
وبذلك فالمحايثة مصدر إغنائي للبنية كما أنها مصدر اكتفاء للتطوير، فالأشياء تستمد وجودها من ذواتها، لتصبح الأفكار هي أدوات تحليل للنظام النسقي داخل الموقف الكتابي والتأويل المعتمد على مقدمات الفكرة المتضمنة للموقف الكتابي عبر نظامه الإسنادي وليست المؤثّرات الخارجية، كما يذهب إلى ذلك النقد المحايث.
وفق منطق أن النص ليس تطبيقاً للواقع ولا بديلاً عنه، فهو ممثل لفلسفة فنية في ذاته، أي (وجود خاص له منطقه وله نظامه) كما يقول شكري عياد.
وهكذا يصبح الإمكان قاعدة الفهم وفق تصور خاص، من خلال الكشف عن علاقات الموقف الكتابي الداخلية والخارجية، وفلسفة التفكير المكون للفهم ذاته بما يحتويه من احتمالية مكون الحقيقة وأبعادها أي وجوديتها وفكريتها داخل النظام اللغوي من خلال الإنتاج العقلي.
ولحظة التحيين هي قاعدة التفسير وفق تقنيات خاصة بالإبستمولوجيا، ولحظة التحقيق هي قاعدة التأويل وفق دلالات ورموز ومجازات، فكل موقف كتابي وفق ذلك يتضمن بعداً فهمياً وبعد فكرياً وبعداً تأويلياً.
ويفرق ريكور بين التفسير والتأويل، بأن التفسير هو تحليل بنوي يعتمد على مجموع العلاقات المكونة للنص، في حين أن التأويل هو التحليل الفكري لدلالات النص متضمناً تفكيك الحقيقة الذي يحتويها النظام اللغوي.
وماهية الإمكان ودوره في عملية فهم النص يدخلنا في جدلية العقل القانوني والعقل الإبداعي السياق والنسق والتعاقب والتزامن والاتصال والانفصال، باعتبار أن الإمكان هو ممثل ما قبل التجربة الانطولوجية، والأخذ بهذا الاعتبار يثير ما هية الإمكان هل هو ممثل لمرجع خاص تاريخي أو اجتماعي أو نفسي (برانية النص)؟ بحيث يُخضع في ضوء تلك الماهية الموقف الكتابي للقراءة السياقية، أو أنه رؤية وحدس وهو وفق ذلك يصبح مقولة نسقية وبنويّة، يحول الموقف الكتابي إلى مجموعة من (العلامات والعلاقات السردية) عبر تصور تمهيدي، ولو استسلمنا لذلك الاعتبار فالموقف الكتابي في تكوينه سيخضع لثلاثة تصورات، تصور إمكاني عبر الأنظمة النسقية وتصور ذهني عبر العوامل الإجرائية وتصور مادي ممثل عبر الأنظمة الإسنادية.
ورغم النظريات النقدية فما زالت النظرية الأرسطية للمنطق (بأن الحقيقة تكمن داخل النظام اللغوي) هي القاعدة التي تتأسس عليها أي نظرية نقدية أو فكرية أو فلسفية، أي انتقال الطبيعي إلى العقلي وهو ما يترتب عليه انتقال الموقف الكتابي من ماديته (الصوت) إلى لغة مغلقة لها نظامها المنطقي الداخلي الخاص الذي يحدده ذلك النظام في دائرة مغلقة مكونة الخطاب الخاص، وهو الذي يؤسس سلطة اللغة على الأشياء لحبسها داخل نسقها الداخلي، والاحتباس يضفي عليها دلالات مرهونة بطبيعة الوظيفة الداخلية للنظام اللغوي مما قد يجدد الدلالات الواقعية للأشياء أو يغيّرها، وهو ما يتفق مع رأي فلاسفة التفكيك (لا نهائية الدلالة) داخل الموقف الكتابي، وهو رأي قد يدفع الموقف الكتابي نحو الهرمسية ويقوده نحو فوضى الدلالة الخلاَّقة بما تنتجه من غموض وتحول الحقيقة إلى حقائق، مما يدعم سلطة البنية.
وتعتمد مرحلة الأهلية التي ترتبط بلحظة التحيين على التاريخ الشخصي للشخصيات السردية الانتماء والتحول والاختلاف داخل الموقف الكتابي عبر أربعة مستويات يحددها غريماص وهي (الوجوب والمعرفة والإرادة والقدرة)؛ أي آليات الفعل السردي التي تُنفذ بمعية عاملين هما (المساعد والمعيق)، وهي المستويات التي تحول نمط الوجود حاصل الفهم إلى حقل (نمط المعرفة) التفسير، فالفهم لا يقتصر على تصور المعنى وفق الإدراك الذاتي بل أيضا من خلال علاقات الاختلاف التي توفرها مرحلة الأهلية والإنجاز.
فالشخصية السردية تُبنى داخل الموقف الكتابي من خلال اختيارها للفعل الخاص في ظل توفر معرفة مسبقة لطبيعة الفعل والتي تحقق له الإرادة والقدرة، وهو ما يجعل الكائن قادراً على تحقيق كينونته من خلال علاقة التحول بين الذات والموضوع تلك العلاقة هي التي تؤسس المعرفة، وليس مجرد الارتباط بينهما على الاعتبار بالدلالات الناجزة للأشياء كما تذهب النظرية التقليدية للمعرفة.
وبذلك فكل شخصية سردية داخل النص الأدبي لا بد من امتلاكها لخصائص الأهلية، أي الاختيار والمعرفة والإرادة والقدرة، لأن توفر خصائص الأهلية للشخصية السردية هي التي تؤهلها فيما بعد لإصدار قرار الانقلاب أو الثورة الذي يطور العلاقات السردية داخل الموقف الكتابي عبر العوامل الإجرائية أي المرسل والموضوع والمرسل إليه والذات والمعيق والمساعد، أي تحصيل الاعتراف.
من خلال تبادل العلاقات السردية وتغييرها وصراعها، وانقلاب المرسل إليه إلى ذات مما يؤدي إلى دينامية الموقف الكتابي وتدفع تلك الدينامية إلى سيطرة موضوع القيمة وإنتاج برنامج سردي آخر يتقابل مع البرنامج السردي الأساسي، ولذلك يطلق غريماص على هذه المرحلة للبرنامج السردي بمرحلة الإنجاز.
وهي المرحلة التي تمهد لمرحلة الجزاء عبر تمثيل ثنية لبرنامجين سرديين، وهنا نعود إلى أنماط علاقة الإنسان بنفسه، عبر الجسد والرغبة والمعرفة والحقيقة والقوة والسلطة والداخل والخارج، وهذه الأنماط هي التي تؤسس خلفية العوامل الإجرائية داخل الموقف الكتابي، المرسل والمرسل إليه والموضوع والذات والمعيق والمساعد، لأنها هي التي تدفع إلى الانقلاب و تُنتج البرنامج السردي المضاد، والتي تنبني عليه مرحلة الجزاء.
ومرحلة الجزاء عند غريماص تنبني على الثنائيات، الخير والشر، والحب والكره، الموت والحياة، الظلم والعدالة.
وتلك الثنائيات لا بد أن تحصل عبر آفاق لغوية وصناعة مواقف كتابية تتبدى في التشكيلات الخطابية.
ولا شك أن البرنامج السردي يثير مسألة مهمة وهي خصائص العالم الممكن الذي يتضمنه الموقف الكتابي، وعلاقته بسلطة البنية واصطناع المحايثة، والدورة الوجودية لمرحلة الجزاء.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة