بادر أبناء وبنات (الشيخ الشهبندري) بالتبرع بكامل مقتنيات المرحوم والدهم من المجوهرات إلى المتحف الوطني، وتضم هذه المجموعة الضخمة والبالغ عدد محتوياتها (4830) قطعة على حجار الألماس والزمرد والتوباز المصاغة على شكل الأقراط والأساور والتيجان التي تعتبر من أنفس الكنوز وأغلاها. وقد عبّر الأبن الأكبر عن الدافع وراء هذا التبرع الحضاري من ورثة
عقلاء كرماء قائلاً: إن إيداع تلك المجموعة الخاصة بكامل هيئتها وبما تحويه لحساب المتحف الوطني هو أفضل إجراء للمحافظة على هذه الثروة والاستفادة من مكتنزاتها وجواهرها بشكل يضمن أن يعم بها النفع للجميع صيانة وحفظاً وابتهاجاً. وأضاف أن في تبرع الورثة تفعيل لقاعدة أن الزهرة الجميلة تموت في يدك وحدك، أما على أغصانها فإن التمتع بها سيعم ويشمل كما يفوح الطيب بالتضوع ).
ماذا؟ ألديكم شك فيما ورد، أم هل تشكون في الاتزان العقلي لأبناء وبنات الشيخ الراحل؟
حسناً، لنرى إن كنتم ستجدون الخبر التالي صعب التصديق أيضاً:
تبرع أنجال الراحل الكبير (الدكتور المفكّري) بمكتبته البيتية العامرة التي تضم حوالي (4830) كتاب إلى المكتبة الوطنية، وتعد المجموعة كنزاً ثميناً نظراً لما تحتويه من أصول تراثية ومخطوطات ومسودات وطبعات نادرة تغطي صنوف المعرفة الإنسانية من مختلف العصور والتخصصات تحفل بوجود تعليقات وشروحات وتنقيحات وتوقيعات. وأوضح أبناء الفقيد أن هذا التبرع السخي نابع من رغبتهم في دعم مقتنيات المكتبة العامة بمجموعة والدهم الضخمة لتكون متاحة لإستفادة الجميع فينهلوا منها وهي ستكون - على حد قولهم - رافدا أساسيا في التكوين العلمي والفكري لمرتادي المكتبة من طلاب وأساتذة وغيرهم.(
الآن استقام الأمر وسهل تصديقه؟ الخبر الأول كان ملفقاً بالفعل وغير معقول تماماً، فمن المعتاد أن يقوم ذوي المرحوم بإهداء مقتنياته الشخصية إلى الجهات العامة فقط إن كانت كتباً، بينما يحتفظون بتركته مما عدا ذلك ويحافظون عليها جيلاً بعد جيل، بل قد يتنازعونها فيما بينهم ويحاول كل منهم الإستئثار بأكبر جزء منها. أما الكتب فتشكل عبئاً كبيراً يسارع الورثة في التخلص منه دون تردد، فيقدمونه هدية كبادرة حضارية تستحق الثناء وتضمن لهم موقفاً نبيلاً. لكن الحقيقة تبقى أن تلك الكتب لا تعني لهم شيئاً مهماً ولن يجدوا فيها فائدة تذكر، لذلك فهم يضعونها في متناول من سيجد فيها الفائدة من أمثال المرحوم الذي أضاع سنوات عمره كلها والكثر من ماله في سبيل تجميعها والحفاظ عليها والاستفادة القصوى منها.
عندما أقرأ أخبار التبرعات المكتبية في الصحف أشعر بغصة شديدة وأتوقف متأملة هذا الوضع العجيب لأصحاب الكتب الذين يفشلون تماماً في خلق صلة من أي نوع بين كتبهم وبين أبنائهم وذويهم! كيف يظل فرداً واحداً في العائلة يعشق هذا الكم الهائل من المطبوعات في حين ينتصب حائط سميك بينها وبين بقية الأفراد؟ كيف يعجز الأب عن زرع نفس لهفته للقراءة في نفوس أنجاله، نفس تقديره للكتب، نفس إحساسه بقيمتها ومكانتها؟ أتخيل كبار الكتاب والمفكرين يعشقون القراءة إلى حد يجعلها تنافس محبة أبنائهم في قلوبهم، لا بد أن كراهية الكتب عند ورثتها ناشئة من إحساس دفين بالشوق إلى القارئ الشغوف الذي انصرف كثيراً عمن حوله فحنقوا على الكتب التي سرقته منهم. هذا الجدار الفاصل بينهم وبين الكتب ربما كان أصله عاطفيا، فهي العزول الذي سحر لب الأب وأسره بين الصفحات ليل نهار فملأ البيت بالكتب التي تسللت إلى كل ركن وزاوية حتى ضاق بساكنيه.
قرأت مرة أن مكتبة الدكتور لويس عوض احتلت شقة كاملة مكونة من ست غرف كبيرة حتي أنه لم يكن يجد مكانا يضع فيه المزيد من الكتب فوضعها في بانيو الحمام. كل محبي الكتب يصفون ضيق الزوجات والأولاد من ازدحام البيوت بالكتب وارتفاع أرففها هنا وهناك وتسللها إلى غرف النوم وإلى طاولات غرف الجلوس. تحتل الكتب وتستعمر المساحات المكانية ويتأفف قاطنوها، لكنها حين تتسلل إلى القلب وتستحوذ على العقل فلا بد أن نار الغيرة تستعر في النفوس أيضاً، فمحبو الكتب يسمحون لها باحتلال كل جزء من وجودهم ويتركون لها كامل التصرف في أهوائهم وأمزجتهم. ثم هنالك تلك الطقوس القرائية في هجعات الليل وطلعات النهار، طقوس تتطلب الاستغراق والانقطاع داخل غرف مغلقة تقاوم الازعاج وترفض المقاطعة.
عندما يرحل الحبيب يبقى العزول أعزلا في حضرة الورثة الذين يجهلونه ولا يهتمون حتى بالحفاظ عليه لأنه من ريحة المرحوم. فقط لأن الكتب كانت تعني الكثير للراحل يتقدم الأبناء بإهداءها للجهات العامة، فقط من باب طلب الرحمة على روحه، لكنهم في معظم الأحيان يقومون ببيعها بأقل الأثمان لترمى فوق الأرصفة في الحراجات الرخيصة. وقد ينتهي الأمر بتلك الكتب في قبو تحت الأرض فتتلفها المياه المتسربة من المواسير التي علاها الصدأ، وقد يصل إليها الفئران والعثة قبل ذلك فتتلاشى أطرافها وتصفر قبل أن تقع عليها عين قارئ نهم. وقد تتكدس داخل الكراتين في مخزن ما حتى تلتصق صفحاتها وتتيبس، وقد تشتعل فيها النيران فتحيلها إلى رماد تذروه الرياح.
لماذا لا يتعلق الأبناء بالكتب تعلق والدهم بها من قبل؟ لماذا لا يعرفون قيمتها الحقيقية ويتشبسون بها كجزء حيوي من وجودهم كما كانت من وجوده؟ كيف يفرطون ببساطة في إرث ثقافي هائل بمجرد رحيل صاحبه؟ هل السبب هو الوالد نفسه الذي عجز عن غرس حب الكتب في نفوس أبناءه؟ ربما قبل أن يفكر المثقف في مسألة توريث كتبه يجب عليه أن يعمل بشكل أكثر جدية على مسألة توريث عادة القراءة. ربما يتوجب على كل عاشق للكتب أن يحول حب الاطلاع إلى ممارسة جماعية داخل المساحات المكانية التي سمح لكتبه أن تغزوها وتحتلها. عليه أن يعود جماعته على جني الثراء المعرفي واصطياد المعلومات واقتناص متع التفكير والتحليل والتحاور مع وفي وعلى صفحات الكتب.
أجلس في شرفتي في كثير من الأحيان وأغلق الباب الذي يفصل بينها وبين مكتبتي. أتأمل كتبي في غيابي عنها، وحيدة ضعيفة كيتيم مشرد. أنظر بحزن جارف إلى الأرفف وقد امتلأت بحصيلة عمري، نذر غير يسير ورثته عن جدي، ومئات ورثتها عن والدي، ومجموعات ضخمة أضفتها على مدى سنوات طويلة. ارتبطت مكتبتي بكل مكان رحلت إليه، بكل بحث اشتغلت به، بكل ورقة قدمتها، بكل مقال كتبته، ارتبطت محتوياتها بنمو وعيي وتشكل فكري. كل سؤال قفز إلى ذهني، كل مسألة حيرت عقلي، كل موضوع كان محل اهتمامي، كانت مكتبتي إلى جانبي خير سند وأغزر منهل. كتبي جمعتها مع والدي الذي بدأها ورحت وإياه نضيف إليها كل في مجال اهتمامه لننهل سوياً من منابعها، ثم خصصنا لها مكتبة من خشب جميل يليق بها، صنفتها وقمت برصها على الأرفف بعناية قصوى، استلمتها إرثاً فخرت به، راقبتها تنمو وتكبر، حافظت عليها وصنتها بإجلال كبير.
مكتبتي من خلف زجاج سميك يفصلني عنها بدت ضائعة تائهة، من سيهتم بها من بعدي؟ أستعرض ورثتي وجهاً بعد وجه: لا أحد سيهتم، بصراحة، لا أحد سيقرأ! وأشعر بذات الغصة في حلقي ويخنقني الحزن على ثروتي الثمينة وأنا أتخيلها ذليلة من بعد إعزازي لها، طريحة الأرصفة في الحراجات الرخيصة يعلوها التراب ويساوم على سعرها من لا يعرف بقيمتها. بل أتخيلها وقد تقدم لشرائها من يريد أطناناً من الورق، يكومها ويزنها ثم يقوم بضغطها لإعادة تصنيعها، أتخيلها أكواماً من الورق الصامت، أخرسه الجهل الذي نزع عنه أحباره.
من خلف الزجاج … أتأمل كتبي في غيابي، أتخيل مصيرها بعدي، وأتحسر…
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة
lamiabaeshen@gmail.com