مدد قلت للأستاذ تركي الزميلي حين أهداني ديوانه (مدد) ما أنا بقارئ، فأكثر ما يؤلمني أن يكون الكتاب لدي ولا يكون له من الوقت ما يفي بمقتضى القراءة، ولكنه كفاني المؤونة بما أحسن صنعه النادي الأدبي بأبها حين سجلوا بصوت الشاعر أشعاره، فكنت أسمعها وأنا مغتد إلى الجامعة أو رائح منها، وفي كل مرة أصيخ لصوته الهادئ المريح تتكشف لي حجب المعاني التي تكتنزها أسطر قصائد هذا الديوان(مدد)، وهي معان أفلح الشاعر أن يجسدها بما لديه من معجم شعري واف وما وهب من قدرة عجيبة على رسم الصور وابتكار الأخيلة وانتقاء الألفاظ المجسدة لكل ذلك مع جرس موح يلامس شغاف القلب، فزوي بذلك للشاعر ابتكار في المعنى وشرف في المبنى.
وكل القصائد على اختلاف موضوعاتها وتباين مبانيها تكاد تجتمع في أنها تعبير عن ألم الإنسان في هذا الكون، وما هذه الصور التي يفلح الشاعر برسمها بواقعية شديدة صادمة تزعزع رتابة العادة سوى مُثُل لذلك العذاب، فالشاعر يرتفع بتلك الصور التي قد تكون خاصة إلى مستوى العام المشترك الذي يلتقي عنده بنو البشر ويواجه بعضهم بعضًا فيتعرون تعريًا أوضح ما يكون في البيان الذي تصدره (العتبة) وهو بيان أو فضيحة تذيعها العتبة الصماء في عرف الإنسان، ولكنها حين يستنطقها الشاعر تذيع بيانها وتحدث أخبارها، فتفضح زيف من مروا عليها، فهي الحد بين الصدق والكذب والحقيقة والزيف وهي آخر الأمر حد بين طوري الإنسان الغافل الحياة والموت؛ فمن فوقها يجتازون بالميت نحو العربة.
ويُفضح الإنسان في مشهد الصغير يسمو فوق جوعه القاتل حين يرى التفاحة تمدها يد الساحرة فهي الخديعة القديمة، يصور الشاعر موقف الطفل من المعونات يأتي بها العدو بتفصيل باهر يصف الطفل الرهين في بؤسه وجوعه والرهين في عمره (تعدى قليلا حمى العاشرة) فصغره وجوعه لم تهلك نفسه الأبية ولا أعشت عينه تفاحة الساحرة بل مد يده باتجاه (الحجارة) ليرمي بها ذات التفاحة.
سخّر الشاعر الذي كاد يجعل من ديوانه بوتقة أحزان الإنسان وآلامه معجمًا حاد الملامح واضح القسمات فترى (مخالبها، المطارق،خناجرها، أنياب، الحريق، طلقة، النبال، كالنصال) وتجد مآل فعل تلك الأدوات من (سفحت،ناهشا، التمزق، الوئيدة، محفل الحزن، الكآبة، تشظي، تنهش، ، يغتال، فتات، مزقت). حتى قصيدة (عيدية) جاءت دعوة للسمو فوق الألم وتناسي الجراح وكأن ذلك قدر الإنسان أن يكون مجروحًا، فلولا الغفلة التي تلم بالإنسان فتهبه لحظات زائفة من السعادة ما عرف تلك السعادة. كثافة من الحزن والتعبير عن الألم تستولي على روح الديوان فتسلبه البهجة كما سلب الإنسان من الإنسان روح البهجة، فغدا مصطرعاً أبد الدهر وأنات الجرحى والمظلومين تضج بقوة، فلا تعجب أن ختمت أكثر أسطر هذا الديوان بهاء. والهاء صوتًا حشرجة، أما في الرسم فدائرة لا تفضي للحل ولا توحي بشيء من نهاية تلك الآلام، فلا حلّ على وجه الأرض، مذ كان الخصم هو الحكم، ومذ كان تناسل قابيل وهابيل. فإذا كان الأمر يقارب شيئًا عبثيًّا فليس أمام الإنسان سوى أن يتوسل، أن يتجه إلى الأعلى أن يصرخ بآخر ما يملكه من روح: (مدد).
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض