ينفّرني أولئك الذين يهدون إلى عبارات اليقين، ويجذبني الذين يضعونني على شفا فكرة!
فالأولون يجعلونني في إحساس متجدّد من اللاّ جدوى والتعطيل، والآخرون يجعلونني في حالة من الدأب، والعمل، والأمل، ولعلّ الفنون جميعها تحاول أن تجرجرنا بعيداً عن تلك اليقينيّة التي تقودنا نحوها الفلسفات والأديان.
ينماز الشعر العربيّ من بين الفنون في أنّه ينزلنا منزلاً وسطاً بين اليقين واللاّ يقين، وهذا سبب جوهريّ من أسباب ديمومته، فهو بذلك يحاكي تماماً النفس الإنسانيّة التي توقن بالموت، وتذبّ شبحه عنها في كلّ لحظة. وعلى الرغم من أنّ اليقينيّة والإبداع ضدّان، لعب الشعر العربيّ تاريخيّاً على اليقينيّات، ومع ذلك احتفظ بألق الحضور.
يمنح الشعر المتلقّي شعوراً بحتميّة الحدث الذي تتولّد عنه المشاعر، وتتناسل، وما ذلك لأنّه جاء نتيجة إلهام، بل لأنّه جاء نتيجة تجربة الشاعر، ثمّ مجموع الشعراء، ثمّ الثقافة. تتشابه تلك الأحداث كما يتشابه ما ينتج عنها من ردود أفعال، على الرغم من الفروقات الصغيرة التي يصنعها اختلاف الزمن أو الشخصيّات.
تتأتّى يقينيّة الشعر العربيّ من كونه بديلاً من النصّ المقدّس، أو من الكتاب الدينيّ، لذلك استمرّ الاعتراف له بالحكمة حتى بعد مجيء القرآن الكريم، ولا شكّ في انبثاق هذه الحكمة من التجربة، ومن حملها اليقينيّة بأبعادها، إذ لا حكمة من الفراغ أو من الخيال. لعلّ ذلك ما تعضده نظريّة الخيال في الشعر العربيّ، إذ تقصد إلى الخيال عبر التصنيع البلاغيّ، واجتراح الجديد في المعنى عبر اللغة، لا عبر الحالة الإنسانيّة، أو الأغراض الأبديّة من حب، وكره، ووفاء، وغدر، واشتياق..
لكنّ ألق الشعر يتجلّى في كون هذه اليقينيّة لا تقود إلى حالة الشعور باللاّ جدوى أو التعطيل، بل في كونها تغرينا بالتجربة، إذ لم يكتف متلقّ الشعر يوماً بالشعر عن الحياة، بل إنّه يخوض غمار التجارب، ويتلهّى بها، ثمّ يستحضر الشعر ليستأنس ويتعلّل، أو أنّه يفعل العكس: فهو يتلقّى الشعر، ثمّ ينزع إلى أن يعيش مرارة التجربة التي حكاها الشاعر أو حلاوتها، فيعكف عليها، وبعد أن يقطف جناها، يعود ليستحضر الشعر، وهكذا نتلهّى بالتجارب الجماليّة عن يقينيّة الحياة والموت، ونحصّل المعارف المتاحة بين هاتين المعرفتين الحتميّتين، أو بين هاتين الحقيقتين: حقيقية الحياة، وحقيقة الموت.
ولولا أنّنا نتلهّى بالتفاصيل، لاستطاعت أبيات قليلة من الشعر أن تكفّنا، وأن تعطّل رغبة الحياة فينا، ولعلّ أبيات أبي تمّام الآتية، تورث في النفس تعطيلاً، ليقينيّتها الواضحة، إذ يقول:
أعوام وصل كاد يُنسي طولُها
ذكرَ النوى، فكأنّها أيّام
ثمّ انبرت أيّام هجرٍ أردفت
بجوى أسىً، فكأنّها أعوامُ
ثمّ انقضت تلك السنون وأهلُها
فكأنّها وكأنّهم أحلامُ
إنّ ما يكافح فكرة التعطيل هذه هو اقتراحات الشعر المتعدّدة لمرحلة ما بين الولادة والموت، والتي يزيّن بها الفنّ وجه الفلسفة، من ذلك أبيات جورج جرداق التي غنتها (كوكب الشرق) في لحن محمّد عبد الوهاب:
هذه ليلتي وحلم حياتي
بين ماض من الزمان وآتِ
الهوى أنت كلّه والأمان
فاملأ الكأس بالغرام وهاتِ
بعد حينٍ يبدّل الحبّ داره
والعصافير تهجر الأوكارا
وديارٌ كانت قديماً ديارا
سترانا كما نراها قفارا
سوف تلهو بنا الحياة وتسخر
فتعال أحبّك الآن أكثر
لعلّ حاجات (جميل بن معمر) التي بقيت في نفسه إلى (بثينة)، تشكّل أداة أخرى نكسر بها صلف اليقينيّة، إذ تلهينا تلك الحاجات، كما يلهينا البحث عنها، ثمّ السعي إليها عن ألم النهاية والفراق، يقول:
وقد خفتُ أن يلقاني الموتُ بغتةً
وفي النفس حاجاتٌ إليك كما هيا
وإذا خرجنا إلى دائرة شعريّة أوسع، تشمل الشعر الفارسي، فسيلقانا شعر (الخيّام) باليقينيّة ذاتها، وباجتراح أدوات أخرى لمحاربتها، وهذا يؤكّد على قوّة طابع الثقافة الإسلاميّة في ثالوثها المعرفي: الله، والإنسان، والكون، بغضّ النظر عن قراءة الشعراء لهذه الثقافة بين عبثيّة ما بين البداية والنهاية، أو جديّته.
إذن، تتكوّن الهويّة المتجدّدة للشعر، بهذه التفاصيل، والحاجات المطروحة بين البداية والنهاية، والتي تخفّف وطأة يقينيّته القادمة من كونه بديلاً تاريخيّاً للنصّ الدينيّ.
يفعل السرد ذلك أيضاً ولكن بأدواته، إنّه يقدّم احتمالات أوسع، لا أكثر، للتفاصيل ما بين يقينيّة الولادة والموت، تمنح المتلقي شعوراً وهميّاً باللاّ نهائيّة. فيجد المتلقي مع كلّ نصّ سرديّ، طريقة أخرى للحياة، وطريقة أخرى للموت، أو للحبّ، أو للوصل، أو للهجر، أو للوفاء، أو للخيانة، أو للحب الذي يتحول كرهاً، أو للوله الذي يتحول صدّاً، وهنا تبدو هويّة السرد أكثر انفتاحاً من هويّة الشعر حتّى في قصيدة الرؤيا التي لم تنج من اليقينيّة رغم شرطها الاحتماليّ.
إنّ الانشغال بزخرفات درع (أورليان) مقاتل روما الفذّ في رواية ما، ليس سوى تلهٍّ جماليّ عن مصيره المفجع، بل إنّ وصف الطريقة النبيلة التي قتل بها ليست سوى عمليّة تجميليّة ليقينيّة الموت. وليس وصف بهاء جسد (زنوبيا)، وتبجيل قدرتها الإلهيّة على شدّ وتر القوس للنيل من الظالمين والأشرار، سوى محاولة للترغيب بحياة ستنتهي بموت وشيك، وهي ليست أكثر من وجه آخر لبيت امرئ القيس الذي يقول فيه:
بكى صاحبي لمّا رأى الدرب دونه
وأيقن أنّا لاحقان بقيصرا
فقلت له: لا تبك عينك إنّما
نحاول ملكاً أو نموت، فنعذرا
يمكّننا ذلك من القول إنّ الشاعر يجمّع الحالة في صورة، أو مجموعة من الصور، التي يقوم الروائيّ بتفكيكها. لعلّ كلامنا هذا سيدحض الكثير من التقوّلات حول أفول نجم الشعر، وصعود نجم الرواية، فنحن نحتاج ذلك كلّه، كما نحتاج العمارة، والرسم، والنحت، والزخرفة، والموسيقا، لنحارب الموت، بل لنهزمه على حدّ قول (درويش): هزمتك يا موت الفنون جميعها!
لعلّ الفنون تهزم موتنا اليوميّ حينما نكون على قيد الحياة، وتهزم فينا حالة التعطيل، والشعور باللاّ جدوى، ريثما تأتي لحظة اليقين الحقيقيّة، التي يفارق فيها المرء الحياة، ولأنّ الشعر هو الشكل الأيقونيّ الثقافيّ لرحلة العربيّ بين الولادة والموت، فإنّنا سنموت وفي أنفسنا شيء من الشعر!
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244
حلب