كان كُتّابنا القدماء يوصفون بأنهم قراء من طراز عجيب.. وكانت صفة القراءة ألصق بحياتهم من صفة الكتابة، فكان بعضهم من أمثال الجاحظ والتوحيدي وابن قتيبة والدينوري وعبد الحميد الكاتب.. يكتري حوانيت الورّاقين ويبيت فيها للقراءة والمطالعة والتأمل والبحث عن الأفكار.. ولا شك أن القارئ لتراجم هؤلاء الأعلام الأفذاذ في تاريخنا الفكري والثقافي يستنتج من خلال تنوع قراءاته لهم وعنهم أن الوقت الذي أمضاه هؤلاء الأعلام في القراءة والمطالعة ومناقشة الآراء والأطاريح الفكرية المختلفة أكثر من الوقت الذي أمضوه في الكتابة وصناعة مصنفاتهم الموسوعية البديعة.
وحتى وقت قريب أيضاً كان كثيرون من أدبائنا ومفكرينا وعلمائنا يأخذون أنفسهم بالقراءة المفيدة المستوعبة، وتقلُّ الأيام التي عاشها هؤلاء في حياتهم دون قراءة واستيعاب وتحصيل، فقد كان العقاد -كما قرأت- يقرأ ثماني ساعات كل يوم، وكان سيد قطب يقرأ عشر ساعات.. ولا شك عندي أن هناك غيرهما من كان يقرأ مثلهما أو أكثر مثل أحمد أمين والزيات والمازني والرافعي وغيرهم.. وهناك أيضاً من تداخل عنده الليل بالنهار فلم يعد بمقدوره التمييز بين وقت ووقت جراء كثرة القراءة وتنوعها لديه، مثل أنيس منصور الذي كان يقرأ عشراً من روايات الجيب أسبوعياً (1)، إضافة إلى القراءات الأخرى المختلفة في مجال التاريخ والعلم والسياسة والحضارة... إلخ، وكان الوحيد بين الطلبة -كما ذكر- الذي تمكن من مطالعة جميع محتويات مكتبة ثانوية المنصورة عندما كان طالباً فيها، وقد وضعت في المكتبة شهادة تثبت ذلك للذكرى والعبرة وتشجيع الطلبة على المطالعة(2).
إنني اعتقد أن الحديث عن هذه الميزة لدى قادة العلم والفكر والثقافة في تاريخنا الفكري بقدر ما هو شرف وفضل لهم ينبغي الاستفادة منه والتذكير به في أدبيات ثقافتنا المعاصرة، إلا أنه أيضاً من جهة أخرى قد يُحرج البعض منا نحن مثقفي الجيل الحاضر، لا سيما، ممن يحرصون على الكتابة واستعجال النشر والظهور وتصدّر المواقع المختلفة، أكثر مما يحرصون على القراءة المنظمة والاستيعاب المطرد المتواصل، وكثيراً ما يحدث لبعض الكُتّاب -تحت تأثير بريق النشر والظهور لجمهور القراء- أن ينسى أو ربما يتجاهل حقيقة أن لا كتابة جادة مؤثرة وناجحة دون قراءة واعية متنوعة مُنتظمة، ويعجبني في هذا الباب ما نصحت به الكاتبة البريطانية (جين أرستن) كل صاحب قلم يرغب في أن يكون له قراء، إذ كتبت تقول في معرض نصحها المتولد من معاناة وتجربة حية ناجحة: (إذا أردت أن تكون كاتباً فلا بد أن تكون قارئًا غير عادي، قارئاً مدمناً يبحث دوماً عن الطبق الشهي في كل مطبخ في أي مكان من الدنيا.. ثم تجلس وحدك في ركن قصي هادئ وتأكل وتأكل، كل ما حوته هذه الوجبة الدسمة من شتى ألوان الطعام، لكن إياك أن تصاب بعسر الهضم، فلا بد أن تكون معدتك قوية سليمة من أي مرض، فالعقل السليم هو (معدة) الكاتب الناجح).
الكتابة الصحيحة تختار وقتها بنفسها:
إذن ينبغي أن ننتبه إلى أن القراءة بالنسبة للقارئ غير الكاتب، تختلف عن القراءة لدى القارئ الكاتب، فالأول ينتفع بقراءته لنفسه وبناء شخصيته الفردية وتنمية مستواه المعرفي والثقافي، أما الثاني فإن القراءة عنده لها أبعاد لا نهائية، فهي تتجاوز بكثير آفاق وحدود الانتفاع الذاتي بالمعرفة والثقافة، فالأخذ عنده لا يختلف معناه عن العطاء، بل هو مرتبط به ومتمازج معه، إنه يشبه إلى حد بعيد عمل (النحلة) فهي تمتص رحيق الأزهار المختلفة الألوان وفي شتى الحقول، لكن هذا الامتصاص وإن بدا ظاهرياً أنه أخذ إلا أنه في واقع الأمر عطاء، لأنها لا تلبث بعد امتلاء المعدة الخاصة بالعسل(3) أن تعود لخليتها لتفريغ الرحيق -الذي يكون بعد وقت قصير قد تحوّل إلى عسل- في الشهدة المخصصة لذلك.. فهذا أقرب مثال للذهن في تصوير الهدف من القراءة المفيدة المتنوعة لدى الكاتب.
وهناك مسألة أخرى تهمّ الكاتب لا تقل جدواها عن قيمة وأهمية القراءة في حياة الكاتب، وهي الوقت الذي يحمل فيه قلمه ويشرع في الكتابة أو في عمله الإبداعي، فقد أثار نقادنا القدماء منذ الجرجاني والآمدي وابن المعتز وأبي الفرج قدامة بن جعفر هذه القضية، وركزوا حديثهم عن البديهة وعلاقتها بصفاء الذهن وسكون النفس واعتدال المزاج، وعلاقة ذلك بالكتابة، وبيَّنوا أن الكاتب لا ينبغي له أن يكتب في أي وقت، وفي أي ظرف، فالكتابة ليست سلق بيض -كما يقولون- أو عملاً آلياً جافاً.
وهذه القضية معروفة كذلك في الفكر الإنساني عامة، فهي من المشترك الإنساني المتفق عليه لدى النقاد في جميع اللغات والثقافات، خصوصاً إذا تعلقت الكتابة بالمجالات الإبداعية والفنية.. لذلك عندما طلبت إحدى المجلات الأدبية من الشاعر الأديب الأمريكي (كارل ساندبرك) أن يكتب لها مجموعة من القصائد في مستوى قصائده الراقية المعهودة، ولا سيما تلك التي صوَّر فيها مرئيات الحياة في مدينة (شيكاغو) رد على تلك المجلة قائلاً: (هل سبق لكم أن سمعتم عن أمر يصدر إلى امرأة حامل بأن تلد طفلاً ذكراً له شعر أحمر.. إنه من صنع الله دون شك، والقصيدة مثل هذا الطفل لا أحد يعرف -حتى صاحبها- متى تولد وكيف سيكون مولدها؟).
متعة المعاناة من أجل القارئ:
إن الكاتب الأصيل هو من تُدمى رؤوس أصابعه من كثرة تنقيبه وبحثه في المصادر المختلفة والمظان التي يتوقع فيها نفعاً وخيراً لقارئه، ومن ينجح في جعل معاناة القراءة المتواصلة ألذ متعة في حياته، وأن يكون بعد ذلك شديد الحرص على تقديم ما ينفع الناس في حياتهم ومعادهم، إذ لا يجوز -وفق التصور الإسلامي- التلاعب بعواطف الناس وعقولهم، أما إظهار الكاتب لمعاناته مع القراءة وصناعة الكلمة فقد اختلف حولها النقاد، وإني لأعتقد أن هذه القضية لا تُحمد أو تُعاب لذاتها، لأنها مرتبطة بدافع ونية كل كاتب وقصده من إبراز هذا الجانب في كتابته، وفي ذلك يقول الأستاذ الأديب أنيس منصور: (... فالكاتب يتعذب ويكتوي ويتلوى ويتأوه، ولكن إذا واجه الناس، عليه أن يقول ما يريح الناس ويفيدهم في حياتهم أو يهديهم إلى ما هو أفضل.. فالذي يقدم طعاماً للناس لا يعرض عليهم أدوات المطبخ ولا يأتي بالفُرن بينهم.. فليس هذا من شأنهم، إنهم يريدون أن يأكلوا.. ولكن الكاتب يريد أحيانًا أن يعرض على الناس صوراً من عذابه ومن براعته في التخلص من العذاب لعلهم يفعلون مثله.. ولذلك نجد الكثير من المطاعم تقدم الطعام وتطهوه أمام الناس.. ويرى رواد المطاعم أن المسافة بين المطعم والمطبخ قليلة، وأن المودة بينهم وبين الطاهي عميقة.. فهذا ما يغري الكاتب أحيانًا أن يؤكده للقارئ)(4).
الكتابة: ضمير نابض بالحياة:
المهم عندي أن يكون الكاتب مستشعراً روح المسؤولية فيما يكتب، وأن يكون على قدر كبير من الذوق الرفيع والأخلاق الأساسية والإنسانية العالية، فالكتابة الناجحة المؤثرة هي تلك النابعة من القلب والوجدان الصادق، وهي حقاً الكتابة التي تصمد أمام الزمن وعواديه ومنعطفاته المتقلبة، فيظل أثرها منساباً في النفوس والقلوب والعقول دون أن تحدها السدود والقيود، لذلك قيل: الإبداع الحق هو تهريب لأجمل ما في العقل والوجدان نحو عالم الخلود.. ولا ريب أن الواقع هو خير من يؤكد صدق هذا القول، لا حديث النقاد والدارسين فحسب..
فالمعيار الثابت الذي يزيد كتابة الكاتب جمالاً وقوة هو الصدق، والأمانة في النقل والتصوير، واحترام أذواق ومشاعر الناس، عن طريق الوفاء لقضاياهم وعيش همومهم ومشكلاتهم، والمعالجة الموضوعية النزيهة لتلك الهموم والمشكلات.. لكن ليستيقن كل كاتب أن ذلك لن يتأتى له دون قراءة، ودون أن يكون مشرئباً باستمرار لمعرفة الأفكار والتصورات الجديدة.. أو قُلْ المتجددة في شتى حقول الفكر والثقافة والعلوم.
* * *
الهوامش:
(1) أنيس منصور، طلع البدر علينا، دار الشروق، 1984م، ص80.
(2) كانت تلك المكتبة تحوي 317 كتاباً، كما ذكر ذلك الأستاذ أنيس منصور في لقاء معه بقناة دبي الفضائية.
(3) خلق الله الكبير المتعالي للنحلة معدتين، الأولى خاصة بجمع الرحيق وإفراز الخمائر اللازمة عليه تمهيداً لتحويله إلى عسل، والثانية مخصصة لهضم ما تتناوله النحلة من طعام (من كتاب: النحلة تسبح الله، لمحمد حسن الحمصي، ص111).
(4) أنيس منصور، طلع البدر علينا، مرجع سابق، ص33
- الجزائر