إعداد - عبدالحفيظ الشمري
كيف نستعيد تفاصيل المدن..؟! وكيف يتم لنا أن نزاوج بين مقولة وأخرى حول منابت حوت في تضامينها ذكريات الخروج نحو الحياة الضاجة في تناقضاتها.
لا شيء غير الشعر يمكن له أن يمتاح ود الأشياء، ليصوغ لنا شعرنا محمد جبر الحربي هفهفات الوجد، والحنين إلى تلك المنابت الأولى (الطائف).. تلك الأنحاء التي سكنت وجدانه.. رغم أنه عاش سني عمره موزعة بين مدن سكنته وجدانيا، وسكنها جسديا.
(طائف) الحربي أول المطاف شعرا، حيث نراه وقد صاغ من وده الجمالي ذاكرة مترعة لحب الوطن الأول، فليس أقوى من حب امرأة، أو مدينة حينما تحفل فيك وتصوغ منك مشروع شاعر، فما بالك بشاعر كبير كمحمد حينما يعشق مدينته (الطائف) التي تسكن قلبه فلا يقوى الصمت، إذ يبوح في حبها مكنون وده شعرا خالصا يرقى كعادته إلى فضاءات الجمال:
(أحنُّ إلى جنة لم تكن آخر الغابراتِ
جنان ندى
كجبال الهدا
طيلة العمر تسحبني للحجاز
إلى خبل في الحجاز
وطفلٍ له العمر،
والعنب الطائفي الشفيف..)
فالشاعر محمد جبر الحربي يعيد رسم تفاصيل مشهد حياتي كامل في المنابت الأولى (الطائف) من خلال قصيدة جديدة عاودهُ هاجسها الأثير، لينتال وجدا، وحنينا إلى أيامه الأولى حينما اصطفاه (عصر جبرة) مطلا على ذلك الاخضرار البكر، لكن الشاعر يلحف في مسغبة السؤال عن عالم بات في رحم النسيان، بل زد على الهجس الأليم ولعه الشديد في البقاء مناضلا دون البراءات الأولى، والحلام المعشبة فألاً، والوعود اليانعة رجاء فيما هو قادم خلف حزن الروح هذه الأيام.
أيام (الطائف) بحجم ما فيها من لطائف يذخرها الشاعر محمد الحربي لمشروع كتابة شعرية ممكنة هذه الأيام حيث استهلها بقصيدة (حديث الهدهد) التي أطلت باذخة كشأن قصائده دائما.
تسكن الطائف وجدان جيل كامل من المبدعين شعراء، وفنانين، وكتاب.. فها هم ومنذ عقود أربعة يصورون لنا حجم الدهشة في وطن جميل، ومدينة يعشقها الجميع لا سيما حينما تذيع سر مفاتنها، لتكثر ينعتها، ويطيب مذاق فاكهتها، وتخلد في الذاكرة طربيات تلك الأيام الخوالي حينما يدندن (العواد) في مساءاتها توليفة الحب للحياة.
الطائف في وجدان الشعراء أقوى وقعا، وأشد أثراً فمن قصيدة مكتملة البنيان إلى دوزنة ولع فائق في غناء شفيف يعكس ما لدى الفنان من دور في بناء هذه العلاقة الإنسانية القوية بين الحياة في هذه المدينة الجميلة وبين من يقطنها، ويتفاعل مع واقعها الجمالي الذي يتجسد في كونها ذات مناخ معتدل، وببنية اجتماعية منفتحة على بعضها البعض، كما أن توجه الناس في حقب سالفة أضفى على المدينة نوعا من الإطراء الذي جعلها محط اهتمام الناس.
فالشاعر محمد جبر الحربي يحن إلى مدينة الطائف، ويأنس في استعادة تفاصيل ذكريات وادعة، وهادئة مع من سكن تلك المدينة.. بل نراها وقد تواردت على هيئة بوح جميل سجل أجمل المواقف، ورسم أزهى الصور، فليس غير الشعر من يقرب لنا بعيد تلك السير الغائرة في الوجدان، ولا أروع من (أبي أعراف) حينما حاول أن يستعيد تلك التفاصيل مع مدينته الهادئة.
ولا مشاحة أن قال القارئ: الحربي سيكتب عن مدينة لا تبتعد كثيرا عن وجدانه.. هي المدينة المنورة.. تلك الأنحاء التي تجسد منابته الأولى وهذا ليس بمستغرب على شاعر يحب الوطن شرقه وغربه وشماله وجنوبه.. فدمت للشعر يا محمد ودام ألقك الإنساني المعبر.