ليس من عادتي أن اكتب عن مسئول بذاته، مهما كانت مسئوليته ومكانته، ولكن هذه المرة تأتي الكتابة (مغايرة) حينما اكتب عن قامة أدبية، كاتبا مفكرا كان رئيسا (للبلدية)في عاديات الأعوام؟
فبداية أقول ماذا يعني (التواري)عند الكاتب حين يمارس الكتابة الأدبية والإسهام في طرح رؤاه وأفكاره تحت اسم مستعار وهو الموظف (الحكومي)؟!
وأتساءل: هل تعني عملية (التواري) عند الكاتب خشية الاستفزاز والمضايقة من (الجهاز الحكومي) الذي ينتمي إليه. وما أعنيه أن مهنة الكتابة قد تعتبر أداة عائقة عن العمل المناط به!
مثل هذه الأسئلة (المؤرقة) الباحثة عن الإجابة عنها عند الكاتب لم يفصح عنها بعد؟، إذا لمن يكتب في كل ماكتبه ويكتبه؟ ونقرأه من كتابات الصحفيين والكتاب الذين رأيناهم ما أن تركوا العمل (الحكومي) إلا وقد برزوا لحيز العيان بأسمائهم الصريحة.. فضلا عن الأسماء (المستعارة) التي كانوا (يستترون) بها من قبل أبان عهد (الوظيفة) وإن كان البعض منهم لم يمارس هذه اللعبة (الاستغمائية) التي حجبت اسمه الصريح ومكانته الاجتماعية، ولدي الكثير من الأدلة الشاهدة على البعض منهم!
(الوظيفة) ليست هي الأداة الحاجبة، بقدر ما هي واجهة اجتماعية ووسيلة يعتاش من خلالها (الموظف) ويؤدي دورا اجتماعيا ثقافيا ناهضا للوطن والجمهور.. متى تحلى بالصدق والأخلاق والأمانة، وهذا شيء لايختلف عليه اثنان، مثلما أن مساهمته في الكتابة هي تنويرا وتطورا اجتماعيا متى كان الكاتب صادقا مع نفسه ومع مجتمعه.
فالكتابة هواية مكتسبه بالمجهود الفرد قوامها العزيمة والصبر والإصرار على وصول المرء إلى مبتغاة نحو ثقافة يشكل منها كينونة حياته نحو حياة زاخرة بالعلم والمعرفة، فهي ذخيرة الكاتب من التحصيل من بطون الكتب وجلبها من مظانها وانتقاء كل ماهو مفيدا منها لتعود عليه وعلى قارئه بالفائدة المرجوة مبينة ثمرة مثابرته وتعبه الدؤوب، فالقراءة لا تتوقف عند حد معين متى كان المرء ديدنه المطالعة الدائمة في كافة صنوف الثقافة فهي كلمة جامعة أدبا واقتصادا وسياسة وكافة الفنون االثقافيه.
الكتابة هواية راقية.. وعشقا مفعما حينما تتلبس الكاتب حالة من الشوق والاشتياق لها ويهفو على قلمه وأوراقه لكي يدون أفكاره ويداعبها كما تداعب الأم وليدها الرضيع وتحنو عليه بكل عاطفة الأمومة، أليست هذه الأفكار هي نتاج سهره وتعبه، وقد حرم نفسه من ملذات الدنيا في سبيل تكوين شخصيته (الثقافية) أن كان نثرا وشعرا، وما أكثرهم فمن بينهم الموظف، الدبلوماسي، والعسكري، والعادي. على اختلاف مشاربهم وأهوائهم مابين الشعر والنثر، وقرائنا لهم الكثير من نتاجهم الغزير في دنيا الثقافة والأدب، والأمثلة كثيرة لا تحصى بمجرد قصيدة أو مقالة وكتاب، ولكن ليس هذا بيت القصيد وإنما القصد لماذا هذا (الحرمان) من كون الكاتب يكتب إما باسم (مستعار) وهو الموظف، أو يبقي ذلك لما بعد التقاعد.؟! ويحرمنا من لذة الاستمتاع في ماكتبه وجعله رهبن الأسر ما بين الكاتب نفسه وأضابير مكتبته.
أنني أطالع وأقرأ اليوم لأحدهم، كاتبا ومفكرا، حرمنا من تذوق كتاباته ولاستفادة من أفكاره التي أشبه (بالدرر: الثمينة في مفردات كلماته في كتبه ومقالاته التي ظهرت للعلن بعد (تقاعده) وقد حرمنا من نتاجه الغزير وهو (الموظف) والذي لم يكتب يوما تحت أية اسم مستعار، حسب ظني، لأنني أعرف طبيعة عمله المرهق والمزدحم في مشاريع الإدارة التي يترأس أدارتها آنذاك، وهو أيضا لم يفصح عن ذلك طيلة عمله (الوظيفي) رئيسا (للبلدية) ولم يكتب يوما مقالة تذكر، ولا يود الحديث لا من بعيد ولا من قريب عن شأنه (الثقافي).؟!
الكاتب الرئيس، الذي كان يعمل رئيسا (للبلدية) كان يحمل بين جوانحه صفة الكاتب المفكر الذي (أصبغ) على عمله الإداري، الأفكار النيرة التي خلقت من إدارته الحيوية والنشاط المصاحب للتخطيط العمراني الحديث الذي أظهر المعالم الجمالية للمدينة التي يرأس (بلديتها) آنذاك، لتأتي تلك المدينة الشمالية من أجمل وأروع مدن الشمال فأطلق عليها (عروس الشمال) فحازت يومها على الشهادات والجوائز التقديرية من حيث التطوير والتنوير، فكل هذا لم يأت من فراغ ف (الفكر) كان متوازيا لجانب العمل الدؤوب الصامت وبرؤية الفنان المبتكر المدرك لجمال الأشياء في الطبيعة والإنسان، هذه الأفكار صاغها الكاتب المفكر في دراسة مستفيضة على الطبيعة. حينما بدأت أولى خطواته الميدانية بعد تسلمه مهام عمله، أتذكر مجيئه رئيسا (للبلدية) في مبناها القديم وسط البلد المقابل لشرطة المنطقة، كان يأتي باكرا لعمله ويقعد بمكتبه ولا يحرك ساكنا، كبعض المديرين الذين يحدثون فوضوية بالتفتيش على موظفيهم مما ينجم عنه تكدر الخواطر في يوم عمل والنهار في بدايته وهذه أيضا ميزة الإداري الخابر في مسايسة المرؤوس. وكأنه يدرس طبائع البشر الذين سيتعامل معهم في تأدية الواجب المناط به ويحلل ويفكر، وما هي إلا سنوات قليلة إلا وقد أعد رسما بيانيا للنهج الأساسي الذي يجب أن تكون عليه إدارته، وكانت من أولى محاسنه وشجاعته إيقاف أراضي (المنح) التي يحاول البعض تطبيقها في أوجه المدينة، فكان يبدي امتعاضه من الناس الذين يحبذون تطبيقها بالواجهات الرئيسية، فأتخذ وسيلة كفته المسألة والمحاججة، فبدأ (بزراعة) واجهات المدينة بالحدائق الكبيرة حتى أصبحت واقعا ملموسا لا يمكن المساس بها، وقد كانت حديقة (الزبارة) وحديقة (صديان) أكبر شاهدا على ذلك فالفكر والتفكير السليم خلق النظرة الثاقبة والنفس الراغبة في أيجاد هذه الأعمال واللمسات الجميلة التي بقيت بصمة خالدة الذكرى أبان ترئسه لبلدية (حائل)!!
الكاتب المفكرالاستاذ إبراهيم عبد الرحمن البليهي، الذائع الصيت والكاتب بجريدة الرياض حاليا، جعلني في حيرة من أمري حينما كنت أتعامل معه من خلال عملي (كصحفي) مديرا لمكتب الجزيرة آنذاك، وتركني فريسة للتساؤلات مع (النفس) في كشف مكنونه وتكوينه في محاولات مني باءت بالفشل، في مدى معرفة (قلمه) فيما يخطه من شروحا على المعاملات التي يذيلها بتوقيعه عليها، وقد أدركت أن هذا (القلم) ينم عن ثقافة عالية ناهيك عن حديث (اللسان) الذي ينم عن لغة عربية راقية، فكنت كلما أتيت لمكتبه لكي أحصل على أخبار لبلدية لجريدتي.. أبدأ في سبر أغوار الرجل لعلني أظفر منه بمقالة أو كلمة أو تعقيبا على نشر أخبارا لبلدية بجريدتي.. ثم استميل بحديثي معه عن الكتاب الفلاني الصادر حديثا أوعن مقالة لهذا وذاك الكاتب؟ كان يسمع كل ذلك ويبتسم! ولعله أدرك في قريرة نفسه لما أود أن يبوح به، فيغير الحديث واضعا متراسا وما أكثرها المتاريس الذي وضعها في طريقي لكي يصعب علي الدخول لعلمه وعالمه الآخر (الأدب) ولم أكل ولم أمل من رغبة النفس في معرفة المبتغى منه كلما سنحت لي الظروف في لقائي به، ولعله اهتداء أخيرا من التخلص من صحفي فضولي مثلي أن يوعز من بعيد جدا لي أن نائبه للشؤون الفنية المهندس علي العصيفير، هو المسؤول عن الأخبار والتصريحات الصحفية فما علي إلا أن أستقي أخباري منه وأخذتني العزة بالإثم، فهجرت البلدية شهورا طوال كنت اترك أخبارها والكتابة عنها للزملاء في المكاتب الصحفية الأخرى؟ فقد أرتضيت الغنيمة بالإياب، بعد أن أعياني في اجتياز هذه المتاريس ؟!! وتمثلت بقول: نزارقباني: فطريقك مسدود مسدود يا ولدي! فلا أنا الذي استمرت علاقتي به كصحفي يبحث عن (الخبر) ولا هو الذي ترك الوضع على ماهو عليه حيث استقي أخباري منه شخصيا!! ولعل الرجل بطيبة قلبه ورجاحة عقله... أستدرك أنه حرمني من أخبار أدارته. وللحقيقة أقول أنني فوجئت به ذات مساء يزور مكتب الجزيرة، فرحت به وبزيارته الغير متوقعة، قدمت له (الجزيرة) التي وصلت في حينها والتي كانت تصل للمنطقة عن طريق (البر) بواسطة سيارات الاجرة القادمة من الرياض ومن ثم يتم توزيعها مساء على المصالح الحكومية التي كان انذاك تعمل بالمساء خارج دوام والبعض نوزعها صباح اليوم التالي. ناولته العدد الجديد ودس يده بجيبه ضاحكا وهو يقول كم حقها؟ قلت له مبادرا يا سيدي لولا أخبار البلدية ممثلة بكم، وفي الإدارت الأخرى لما كان لنا صفة التواجد، وأردفت قائلا خصوصا البلدية أخبارها مهمة ومميزة فهي الشريان النابض للمدينة. فذهب الرجل.. وفي الغد تبعته بمقالة امتنان لزيارته التي أثلجت صدورنا بمكتب الجزيرة. بعد ذلك انتقل للعمل بوزارة الشؤون البلدية والقروية، ومن ثم مديرا عاما للشؤون البلدية والقروية بالقصيم، ونقلت أنا لمدينة جدة. وكانت آخر مكالمتين فيما بيننا وهو في منطقة القصيم، ولم أعرف بتقاعده إلا حينما قرأت مقالة لا أتذكر كاتبها وإنما عنوانها و(ترجل الفارس) يثني كاتبها على الرجل والخدمات التي قدمها لمنطقة القصيم، وحسن تعامله مع من يرأسهم في البلديات وعدد صفاته ومحاسنه.
واذا كانت الهواجس ساورتني يوما عن الكاتب والمفكر والإداري الناجح الأستاذ إبراهيم عبد الرحمن البليهي، فقد صدق حدسي المعرفي عن هذاالرجل منذو وقتا مبكرا فهو اليوم العالم المفكر ذو القامة والقدرة الثقافية التي لا تقدر بثمن.. فهل أفضل وأجمل وأسمى من كنوز ( العلم) في الحياة.؟؟.
جاءتني جريدتي، الجزيرة والرياض وغيرها. وأنا في دمشق أحضرها أبني طارق الذي وصل يومها من جده، وحينما بادرني بالسلام، فتح صفحة الرياض على حروف وأفكار، وسألني هكذا. أليس صاحب هذه الصورة وهويشير بيده للصوره هي الصورة التي عندك ضمن صور المسؤولين لما كنا بحائل.. دققت بالصورة نعم أنه هو الذي صورته عندي هذا يا بني هو الاستاذ إبراهيم البليهي. كان يوما رئيسا لبلدية حائل، وقلت في نفسي القول المأثور (وتأتيك بالأخبار ما لم تزودوا) ها هو الذي عجزت عن معرفته بالسنوات المنصرمة.. أعرفه اليوم وقد وضع الرئيس المتاريس في طريقي دون المقدرة للوصل إلى (منجمه) هذا المنجم الذي أضاع علي متعة الكتابة عنه وتبني الجزيرة التعريف عنه والإشادة به. وحينما شرعت في قراءة مقالته التي كانت بعنوان (محاولات فكرية لتوطين مفهوم الثقافة) أعدت قراءتها مرة ثانية وبدأت أستفيق من شرودي وتغريدي بالمقالة ثم أعود وأطالع صورته الشخصية وقلت في نفسي أهلا بالأستاذ إبراهيم، أحدث نفسي كما لو كان ماثلا أمامي. وبعد كذا حرصت على متابعة ما يكتبه وقرأت له مثل (الطبيب الذي صار أستاذ الأدب) و(المسلمات الثقافية تعطل عقل الفرد والمجتمع) و(الاهتمام اندفاعا والاهتمام اضطرارا) وغيرها من المقالات التي تستحق المتابعة والقراءة.. ترضي نهم القارئ الحصيف الذي تضع في مخيلته الكثير من التساؤلات وتفتح له مغاليق (العلم) الرحبة.
هذا هو الكاتب المفكر إبراهيم البليهي الذي يقف في مصاف المفكرين العرب، مثل محمد عابد الجابري ومحمد جابر الأنصاري وبشارة عزمي وبرهان غليون، ومحمد اركون، وغيرهم الكثير من المفكرين العرب الذين تعتز بهم أوطانهم وقد أثروا المكتبة العربية في مؤلفاتهم التي أصبحت مصدر ثراء فكري وكنزا من كنوز العلم والمعرفة، لأجيال الحاضر والمستقبل.