في مطلع السبعينات من القرن الماضي، وفي أعقاب وفاة الزعيم المصري جمال عبد الناصر، بدأت تتبلور في الحياة الاجتماعية والثقافية المصرية ظاهرة جديدة ومثيرة، سرعان ما كشف النقاب عن أبعادها عالم الاجتماع المصري الراحل د. سيّد عويس، وذلك عندما أصدر كتابه الشهير: ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي. كانت ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي ممارسة شعبية، يعرفها الكثير من المصريين منذ وقت طويل، ولكنها اتخذت بعد وفاة الرئيس عبد الناصر بعداً جديداً تمثل في تزايد أعداد المشاركين في كتابة هذه الرسائل. بعض هؤلاء كانوا من الأميين الذين يطلبون من كتبة يرتبطون بهم بقرابة مباشرة، مساعدتهم في كتابة هذه الرسائل وإرسالها بواسطة البريد الحكومي، في ما يشبه ممارسة عادية، كما لو أن المرسل يبعث برسالة إلى شخص آخر حي يرتبط به بصلة قرابة من نوع ما، أو يتوجه إليه بوصفه صاحب سلطة.
بعض المشاركين في كتابة الرسائل، كان يقوم بإشراك آخرين في كتابة رسالته، بما يجعل منها ممارسة جماعية أو مشتركة (بين اثنين أو أكثر) يجمع بينهما الشعور بوقوع مظلمة بحقهم من جانب أفراد آخرين يتمتعون بالقوة والنفوذ في المجتمع. كما أن نسبة النساء الأميات المشتركات - وحتى بعض المتعلمات- وهي نسبة مرتفعة إلى حد ما، كانت تشير بحد ذاتها إلى بعد جديد في الظاهرة، ذلك أن حجم المظالم ونوع المظلمة الذي يقع على المرأة سوف يضفي على الظاهرة نوعاً جديداً وغير مألوف من التصورات. وقد لاحظ عالم الاجتماع المصري أن المصريين - من مختلف شرائح وطبقات المجتمع - وبعضهم على درجة عالية من التعليم، كانوا يلجؤون إلى كتابة رسائل تتضمن شكاواهم الشخصية، بوقوع مظالم ضدهم من جانب المجتمع أو من جانب أفراد آخرين من ذوي النفوذ والسلطة، وأنهم كانوا يرسلون هذه الرسائل بواسطة البريد الحكومي إلى ضريح الإمام الشافعي. كما لاحظ أن هؤلاء يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأنهم يتوجهون إلى صاحب سلطة وقرار. ويبدو أن فداحة الشعور بالظلم الاجتماعي وربما تزعزع الإيمان بقدرة الدولة أو عدالتها، وحتى استعدادها للردّ على المظالم، كان من بين العوامل التي ساعدت على انتشار الممارسة الشعبية وتزايد أعداد المشاركين في إرسال الرسائل. كان سيّد عويس يعمل باحثاً في المركز المصري للبحوث الجنائية كعالم اجتماع، وقد أثارت انتباهه هذه الظاهرة. ولذا نقدم بطلب خطي إلى الأزهر الشريف طالباً السماح له بالاطلاع على هذه الرسائل لأغراض البحث العلمي. تطلب الأمر بعض الوقت قبل أن يعطي الأزهر موافقته الرسمية على فتح الضريح المقدس وإخراج عدد محدود من الرسائل لم يكن ليتجاوز حدود 60 رسالة جرى اختيارها عشوائياً إلى حد ما.
ما إن استلم عالم الاجتماع المصري هذه الرسائل حتى بدأ مشروعه الرائد لدراسة أحوال المجتمع المصري من منظور جديد: الكشف عن سلطة الأموات على الأحياء في المجتمع المصري الحديث. لاحظ سيّد عويس أن هذه الرسائل كانت تتضمن- في الإجمال- شكاوى من مواطنين مصريين وقعت بحقهم مظالم اجتماعية.
هذه سيّدة من الصعيد تشتكي للإمام الشافعي برسالة ممهورة بختم البريد الحكومي (أن أحدهم - وهي تكتب اسمه الصريح وعنوانه- قام باغتصاب بقرتها الوحيدة منها، وأنها لا تملك وسيلة لردعه). وتلك امرأة أخرى تشتكي من تعرضها للتهديد من جانب أفراد نافذين في المجتمع. وهناك- إلى جانب المرأتين- رجل يشتكي من سوء الحال وتردي أوضاعه وتعرضه للظلم. كانت فكرة وجود (قوة) أخرى، خارج عالم السلطة الدنيوية، قادرة على إنصاف المظلومين وردّ الظالمين على أعقابهم، تتبلور من خلال هذه الرسائل بوصفها سلطة حقيقية، وأن المظلومين يعتقدون اعتقاداً راسخاً بأن هذه القوة لا تزال قادرة وأن لديها النفوذ والقدرة على الردع. ولأن هذه القوة لم تكن سوى (سلطة الموتى) من القديسين والأولياء والصالحين؛ فإن هؤلاء لا يزالون يتمتعون بالنفوذ على الأحياء. ولذا راح عالم الاجتماع المصري يتساءل: تُرى من أين استمد المصريون المعاصرون فكرتهم عن وجود سلطة للأموات على الأحياء من البشر؟ وهل لدى الأموات الصالحون القدرة على ردع الأحياء الفاسدين؟ وفي هذا السياق كشف البحث عن وجود أساس ثقافي راسخ وعميق في الوجدان الشعبي، تنبع منه سائر الأفكار والمعتقدات الشعبية بوجود مثل هذه السلطة. وحين فتش عالم الاجتماع المصري عن هذه الجذور في العقائد المصرية القديم وفي الأساطير الفرعونية، لاحظ أن المصريين المعاصرين على غرار المصريين القدماء لا يزالون يعتقدون - بصورة شبه متواصلة ولأكثر من خمسة آلاف عام- أن عالم الأموات يعرف (محكمة) تعقد جلساتها بانتظام للنظر في شكاوى المظلومين من الأحياء. وبعض هذه المعتقدات كان يذهب إلى أكثر من ذلك، حين يحدد أسماء منْ يعتقد أنهم أعضاء في هذه المحكمة فيورد مثلاً مزاعم عن وجود السيّدة زينب (شقيقة الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب). ولذلك، فإن بعض الرسائل كانت تلحّ على ضرورة إطلاع السيدة زينب على هذه الشكوى. بل والطلب إليها أن تنظر بنفسها في أمر المشتكي أو المشتكية. وهكذا، بدت (محكمة الأموات) في الوجدان الشعبي المصري استمراراً ثقافياً لا يكاد يعرف القطيعة، فالمصريون القدماء كانوا يعتقدون هم أيضاً بوجود مثل هذه المحكمة، وذلك ما سوف تكشف عن دراسة الأساطير المصرية نفسها. ففي الأساطير والمعتقدات المصرية القديمة، كان المصريون يرسلون الرسائل مع الموتى قبل دفنهم، لاعتقادهم أن هؤلاء سوف يوصلون رسائلهم إلى أحبائهم في العالم الآخر. وأكثر من ذلك؛ فإن طقوس الدفن المصرية القديمة كانت تتضمن تقاليد دفن الأغراض والحاجيات الشخصية للمتوفى، في إطار معتقد ديني قديم عن عالم آخر سوف يصل إليه المتوفى. كما أن هذه الأساطير تتضمن الكثير من الأفكار عن هذه المحكمة. على هذا النحو بدت ظاهرة إرسال الرسائل إلى ضريح الإمام الشافعي وبواسطة البريد الحكومي، نوعاً من استمرار في تقاليد ومعتقدات شعبية قديمة مفادها أن الموتى هم أحياء في عالم آخر. بيد أن الأمر الجديد والمثير الذي كشفت عنه الدراسة، هو أن الممارسة الدينية والطقوسية اتخذت طابعاً اجتماعياً مباشراً وساخناً لأنه يتصل بوقوع مظالم في الأرض.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7641» ثم أرسلها إلى الكود 82244
دمشق