من الأفلام التي كلما ذكرت أسماء أهم عشرة أفلام في القرن العشرين ذكر فيلم (راشمون) للمخرج الياباني أكيرو كوراساوا. أتذكر أني شاهدت الفيلم وهو فيلم للنخبة وليس فيلما شعبيا، شاهدته في صالة سينما الحمراء الصيفية (أي صالة سينما مفتوحة) في مدينة البصرة، وهي من الصالات التي تكثر في العراق بسبب طبيعة الجو الحار وطول فترة الصيف. ولتلك المشاهدة متعة خاصة جدا أن تشاهد فيلما جميلا مع نسيمات الليل المنعشة وتحت سماء مرصعة بنجوم واضحة في إضاءتها بسماء داكنة الزرقة. الفيلم مصور بالأسود والأبيض وبأداء قريب من الأداء المسرحي ومصور بصيغة سينمائية إعتمدت كثيرا على اللقطات القريبة.
الفيلم مأخوذ من قصة قصيرة للكاتب الياباني (ريونسكي) والفيلم(راشمون) لا يحمل اسم القصة بل سمي بهذا الاسم لأن أحداثه تدور تحت بوابة قديمة في اليابان هي بوابة (راشمون).
فكرة الفيلم تدور حول النسبية حيث لا توجد حقيقة مطلقة فكل شيء نسبي حيث يتدخل دائما العامل الشخصي إضافة إلى الموضوعي في النظر والقراءة لأي حدث يدور في هذا العالم. أربعة أشخاص يروون حادثة قتل غريبة شاهدوها. يروونها إلى راهب كان جالسا تحت بوابة (راشمون). ونحن نشاهد الحادثة لأربع مرات كل مرة كما يرويها أحد الأشخاص.
عابر السبيل يروي الحادثة ويفسرها ونشاهد تفاصيلها بما يتناسب وشخصيته المتعالية. الزوجة تروي الحادثة بما لا يعود على مفهوم الشرف المتداول بالإساءة فترى في الأحداث ما يتناسب وتلك العفة فتحذف ما تشاء وتضيف ما تشاء من تفاصيل حادثة القتل فنرى القصة مختلفة بالكامل عن القصة من خلال عابر السبيل. الزوج من طائفة السومرائيين فيروي الحادثة مفسرا ما شاهده وفق الطقوس السومرائية فتأتي الحادثة بشخوصها وتفاصيل جريمة القتل مختلفة تماما حتى ملابس القاتل والقتيل فنراها مختلفة. أما الحطاب فهو يخاف من المسؤولية في شرح التفاصيل فيخفي ما يشاء ويفسر ما يشاء بما لا يجعله شاهدا أو له علاقة بالحادث حتى بصريا فنرى حكاية مختلفة عن الثلاثة!
قرأت قبل أيام رواية وصلتني من مدينة الناصرية في العراق لكاتب من أصدقائي كان يكتب في الصفحة الثقافية التي كنت أشرف عليها في صحيفة المواطن في بداية الستينات. وهو الكاتب أحمد الباقري. عنوان الرواية (ممر نحو الضفة الأخرى) وتتحدث الرواية عن الهروب الشهير لسجناء سجن الحلة الذين تمكنوا من حفر نفق تحت غرف السجن إلى ما بعد سور السجن وهربوا وقد هزت الحادثة الأوساط السياسية والوطنية العراقية. قرأت الرواية بتفاصيلها الدقيقة وصاحبي لم يكن سجينا مع السجناء ولكن التفاصيل الدقيقة في السجن وطريقة التخلص من التراب والأدوات التي استعملت في الحفر هي من الدقة بحيث لا يمكن لشخص لم يكن سجينا أن يرويها بالأحداث والأمكنة. وقد استعمل مؤلف هذه الرواية التي أطلق عليها رواية تسجيلية، وهي صادرة عن دار نشر في الكويت هي دار قرطاس عام 2004. الأسماء الواردة في الرواية هي أسماء مستعارة أطلقها الكاتب عن الأسماء الحقيقية للسجناء، وكان من بينهم الشاعر مظفر النواب، وقد أعطاه اسم منذر حمدي ولكني عرفته لأنه كان السجين الذي كان يلقي الشعر في سهرات الليل ليخفف عن السجناء أحزانهم وتعب حفر النفق الذي سوف يهروبون من خلاله. لم تكن للرواية مواصفات تقرب الشخصية من شخصية النواب ولكن لأن الأحداث ما تزال في الذاكرة فقد كان واضحا إن شخصية الشاعر تشير إلى النواب. كنت أريد بأي شكل من الأشكال أن أعرف بقية الأسماء الحقيقية للسجناء الذين هربوا وكان في ذهني أن بطل قصة حفر النفق هو السياسي والكاتب عقيل حبش. اتصلت بالسياسي عقيل حبش في مدينة الناصرية لكي أعرف أسماء السياسيين الذين ساهموا في حفر النفق وهربوا من السجن، فدلني على كتابه المطبوع والذي نشره أيضا على الإنترنت وعنوان الكتاب (الطريق إلى الحرية) وهو يروي في الكتاب مذكراته الكاملة مع الأسماء الحقيقية للسجناء. الكتاب هو مذكرات بدون تدخل للمخيلة الروائية. وفهمت بأن صديقي الكاتب أحمد الباقري قد اعتمد المذكرات مادة (كاملة) لروايته التسجيلية وغير أسماء السياسيين ولكن ما أضافه كروائي من مخيلته جعلت حكاية حفر النفق وطبيعة السجن وزائري السجناء ولقاءاتهم والأحداث مختلفة وبدت كأنها رواية أخرى لواقعة الهروب من السجن. كما أن رواية وليمة لأعشاب البحر لحيدر حيدر قد اعتمدت المذكرات في جانب من أحداثها. وقد قرأت مذكرات أخرى عن الحادثة في موقع على الإنترنت كتبها جاسم المطير وتراءت لي مختلفة تماما كما في مذكرات الرجل الذي تحمل العبء الأكبر في حفر النفق. فثمة أبطال مخططون للعملية والمطير واحد منهم يتحملون العبء الأكبر في التخطيط لحفر السجن فكادت أن تضيع جهود السجين عقيل حبش الذي حفر نفقا طويلا كان الطريق إلى الحرية كما يرويها هو.
هذه الحادثة الثقافية وفيلم راشمون يؤكد ان فكرة العمل الروائي حتى التسجيلي منه القائم على الرؤية الذاتية للأحداث والواقع، ولهذا فإن رواية أحمد الباقري التي تحاشى فيها ذكر أسماء السجناء السياسيين قد أتاح له ذلك فكرة تشغيل مخيلته (أحيانا) وكان بإمكانه أن يذهب إلى مديات أبعد لأنه لم يعد ملزما بالوقائع بدقة طالما تخلص من فكرة تدوين الأسماء وبذلك كان يمكن أن يضفي على العملية أفكارا وتأملات إنسانية أوسع من العملية السياسية بحد ذاتها. وأنا هنا أذكر أني كتبت مرة سيناريو لفيلم مستقاة أحداثه من التاريخ فكنت عندما اكتب المشاهد المدونة تاريخيا تكون مساحة حرية الكتابة والتأمل محدودة وعندما أكتب عن مراحل مفقودة من الحدث وغير مدونة تاريخيا فإن مساحتي واسعة في التفكير وفي كتابة المشاهد والحوار وتحريك شخوص القصة.
وفي كتابة مثل هكذا رواية ومعلوماتها وشخوصها مأخوذة من كتاب آخر يمثل سيرة سياسية ذاتية كان المفروض أن يشار إلى المصدر بأن الرواية قد استقت أحداثها من كتاب المذكرات المعنونة ب الخروج إلى الجنة.
هذا تاريخ حديث وأشخاصه لا يزال بعضهم على قيد الحياة وهم تحدثوا عن حقيقة عاشوها بأنفسهم فقرأت أنا كمتلق الحدث بثلاثة أشكال مختلفة، وهناك شكل رابع لم أتمكن بعد من الإطلاع عليه. فكيف سننظر إلى التاريخ البعيد الذي نختلف فيه ونتقاتل من أجله وقد وردنا بطريقة قال فلان عن فلان عن فلان إن... وكيف نبني تصورتنا لو أردنا أن نقدم تلك الأحداث التاريخية عبر وسائل التعبير الدرامية المعاصرة. في مثل هذا الشأن ينبغي أن نعيد كتابة التاريخ بالصيغ المرئية أو الروائية المكتوبة دون أن نعتدي على مشاعر الآخرين بل أن نستفيد من الحدث في كتابة جميلة تقدم المتعتين الحسية والعقلية دون أن تمس بمشاعر المتلقي. وأمامنا تجربة شكسبير ومسرحياته التي استقاها من أحداث التاريخ التي حصلت في قصور الملوك وأحياء الفقراء والطبقات الوسطى من المجتمعات، وكلها جاءت ممتعة دون أن نسمع يوما أن اعترضت عائلة أو شخص على إرث شكسبير العائلي والفكري كما لم يعترض ولم يحتج ريونسكي على كوراساوا بصدد راشمون فيما توضح كتابة المذكرات عن حادثة السجن والرواية المكتوبة عنها وجود وجهات نظر مختلفة في نقل الحقائق وثائقيا وروائيا وإن أبطال تلك الحادثة لا يزالون على قيد الحياة فكيف بالذين لا يزالون على قيد الموت من تاريخنا.. كيف نكتبه.؟! هل نكتبه على طريقة راشمون في أن الحقائق نسبية ولا توجد حقائق مطلقة أم نكتبه وثائقيا ونحن مختلفون فيصبح تاريخنا تواريخ وينعكس ذلك بالضرورة على واقعنا المعاصر.. وأيضا على مستقبلنا.
طلبت من السجين السياسي السابق عقيل حبش والذي حفر النفق أن يكتب لي بعض الحقائق برسالة عن كيفية التفكير بالهروب من السجن كيف بدأت ومن أوحى بها ولماذا وما هي طبيعة الصراع داخل السجن فقادتني رسالته مرة أخرى إلى راشمون وبدأت أستعيد فكرة الفيلم لأنني وجدت أكثر من قصة في كيفية التفكير بالحفر والأدوات المستعملة. تاريخيا الحادثة حصلت ولكن الذين يكتبون يخفون حقائق ويؤسسون حقائق عن حادثة واحدة وكلهم بالتالي هربوا من السجن وبقيت الحقيقة المتعلقة بكيف ومتى ولماذا، بقيت شبه غائبة وسوف تبقى للقارئ والمتلقي حرية القناعة. مثل ما حصل لمشاهدي راشمون. فصارت الحقيقة نسبية وكادت أن تضيع قوة الحقيقة. وإذا كان الحدث قد مر عليه قرابة الأربعين عاما وضاعت منه الحقيقة فهل يحق لنا محاكمة التاريخ لأحداث مر عليها أكثر من ألف عام وفي زمن لم تكن فيه وسائل التوثيق متوفرة. ذلك يقودنا إلى المسؤولية في قراءة وكتابة التاريخ.. وبعد ذلك مشاهدته على طريقة راشمون!
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7591» ثم أرسلها إلى الكود 82244