لا يمكننا كمثقفين أن نقرأَ عنْ حنَّامينة من دون أنْ نصابَ بالدهشة والذهول إزاء ما نراهُ من إصرارٍ وتجلُّدٍ على ركوب الصعاب، ليس بما يقولهُ هوَ فحسب؛ وإنما من خلال تجربةٍ حياتيةٍ لهُ؛ تلطَّختْ بألوان الشقاءِ والتعب والبؤس.
إنه، حقاً، يعدُّ من العربِ القلائل، الذين امتلكوا ناصيةَ العزيمة، وتقلَّدوا روحَ الكفاح، وناضلوا من أجْل الأدب والفن والحياة.
لقد بَدأ رحلتَه الحزينة، مُذ كان طفلاً، وتحديداً، عندما كان أستاذُه يسخرُ منه، كلما أرادَ أن يكتبَ مقالةً قائلاً له: هل تريد أن تكون مثل (جبران التويني)!
لم يستسلمْ هذا الطفل العنيد، لعِبارات الاستهجان التي كان الناس يرمونه بها بين فَينة وأخرى؛ وإنما ظلَّ يستشرفُ المستقبلَ، ويتطلَّعُ إلى آمالٍ لم تُولد بعدُ، فحاوَلَ هذا الطفل – عندما ابتدأ العمل كحلاقٍ في إحدى الصالونات القريبة من منزله - أنْ يكون مُوسيقيَّاً ومُغنِّياً؛ إلا أن الحظ لم يكن حليفه؛ لأنه صوته كان قبيحاً لا يساعد على النجاح كما كان يقول ذات مرةٍ.
حاول بعد ذلك في أن ينظم الشِّعر، أي أن يصبح شاعراً، لكنَّ أحدَ الزبائن الذين كانوا يأتون إلى صالون الحلاقة عِنده، أَقنعهُ بأنَّ شعرَه سيئٌ للغاية، ويبعثُ على الاشمئزاز، ولذلك قرر حينئذٍ في أن يبحث عن شيءٍ آخر، هذا الشيء هو كتابة القَصَص، فبدأ بعَمَله كقاصٍّ، بحرص وبدأب شديدين للغاية.
إن هذا الحرص الكبير، والمبالغ فيه، من حنامينه، في أن يكون كاتباً عظيماً عبر قصص كان يدوِّنها ليلاً وتحت مصباحٍ صغير وبروحٍ ثائرةٍ، هو ما جعل أمه تشك في سلامة عَقْلِ وَلَدِها؛ فلقد ظنَّت أمُّه بأنَّ ابنها (حنَّا) مصابٌ بمسٍّ؛ ولذلك ذهبتْ به إلى أحدِ القساوسة، فذهب هوَ معها أوَّل مرةٍ إرضاءً لخاطرها، لكنَّه رَفض في المرات التالية، وأَخبرها بأنه إنْ ذهبت به إلى القسِّيس فسوف يهرب من البيت، ولذلك اضطُرت طوعاً بأن تسأله قائلةً: ما ذا تعمل في غرفتك إذاً كل هذا الوقت يا حنا ؟ فقال: إنني أكتب قَصَصاً.
ومع أن (حنَّا) قد اهتدى إلى الطريق الصحيح، بخصوص مستقبله الأدبي؛ إلا إنه ظلَّ فقيراً، مُعدَماً، لا يجِدُ قوتَ يومِه؛ الأمر الذي جعله يبحث عن مصدرٍ لرزقهِ يسد بها جوعته، فاختار عندئذٍ أن يبيع الصحف.
نزل (حنَّا) إلى الشارع وبدأ ببيعها، تاركاً الزبائن في كراسي الحلاقة، ريثما ينتهي من بيع ما في يده من جرائد.
كان هذا التصرف مجنوناً إلى حدٍّ بعيدٍ، فكيف يتجرأ هذا الصبي في أن يُهمِل الصالون ويتجه إلى بيع الصحف، لذلك نهرته أمه بشدة، لدرجة أنها باتت تلطمُ خديَّها نادبةً حظَّها.
ثم إنه بعد أن شبَّ عن الطوق راح يبحث عن عملٍ شريفٍ- مثله مثل أيَّ شابٍ طموح- هذا العمل هو: الصحافة، لقد مارس الصحافة كمهنة شيقة وممتعةٍ زمناً لا بأس به؛ إلا إنه اتخذ القرار النهائي والأخيرَ الذي لا رجعةَ فيه، وهو أن يكون روائياً عظيماً.
لقد نجح حنامينة فعلاً في أن يكون كذلك، على رغم الصعاب التي مرَّ بها سواء في طفولته وصباه، أو عندما قرر أن يكون روائياً عظيماً، وهو بهذا قد أثبت للعرب جميعاً بأن الإبداع الحقيقي لا يمكن أن يخرج إلا من رحم المعاناة.
القصيم