قُلْ كلمتك وامضِ،
ولا تشغل نفسك بالبرهنة والجَدَل،
فكلّ كلمةٍ ترفضها الآذان عَلَنًا تقبلها العقول خفيةً،
ثم تظلّ تشتغل- نيابةً عنك- على البرهنة عليها والاستدلال،
فلا تُفسد الرسالة!
ربما مثّل ما قلناه في مساق سابق، من أن (من الإنصاف الإشارة إلى إيجابيّات محدّدة يحملها الشِّعر العامّي- في حدّ ذاته - وبخاصّة النبطي منه)، مفارقة لدى من لا يرون في الألوان إلاّ لونين متناقضين: أبيض أو أسود. وذلك أنني بعد أن تحدّثت عن سلبيّات العاميّة وشِعرها، تحدثتُ عن بعض إيجابيّاتهما (الممكنة). ولقد يلوم اللائمون، ولقد يفرح آخرون. غير أن منطق العِلْم، بل طبيعة الأشياء، يقولان: أنْ لا شرّ مطلَقًا في شيء، بلا نِسبةٍ من خير، ولا إثم بلا منفعة، بيد أن العقل حريٌّ أن يكون له ميزان، فإنْ رجحتْ كفّةٌ على كفّة، لم تأخذه عاطفة، ولم تستبدّ به لذّة ليتعامى عن الكفّة الراجحة، عشقًا لما في الكفّة المرجوحة. وتلك هي المعادلة القرآنيّة في شأن أُمّ الكبائر وفي شأن الميسر، حينما قال تعالى: "يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ؟ قُلْ: فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ، وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا. وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ؟ قُلِ: الْعَفْوَ، كَذَلِكَ يُبيِّنُ اللّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ". [سورة البقرة: 219]. تلك دعوة الله إلى التفكّر، والتدبّر، والموازنة، "بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ". [سورة القيامة : 14].
كما كنّا تحدَّثنا - من خلال ذلك الميزان نفسه - عن مسابقات الشِّعر العامّي، ومنها مسابقة (شاعر المليون)، مُلْمِحين ضِمْنًا إلى أنه ما أودَى بثقافتنا إلاّ الغلوّ في التعصّب لإحدى ثنائيّاتنا الضدّيّة: (مع أو ضدّ)، فمَن مع الشيء صادَرَ العقل حتى لا يرى إلاّ ما يحبّ، ومَن ضِدّه وَصَلَ في ضدّيّته إلى درجة تصوير الأمر وكأنه إحدى الموبقات، بل كأنه من (الحِنث العظيم)، أو مهلكات الحرث والنسل. وهذا المعترك الأيديولوجي بين طَرَفَي نقيضٍ من التطرّف هو ما يراوح فيه الموقف من تلك المسابقات الشِّعريَّة وأضرابها. وكلا الموقفين المؤدلَجين خطر، يهدم ولا يبني؛ لأنه منحاز، تَحكمه مآرب أخرى، سُلطان التوازن والعدل والموضوعيّة عنها مغيّب.
وكذا أشرنا إلى أن حضور صوت المشاهد في مسابقات الشِّعر، عامّيّه والفصيح، بوصف ذلك الصوت مؤثّرًا في الاختيار والقرار، هو: (ضِغْثٌ على إبَّالَة)، في سلبيّات تلك المسابقات. وهذا مَثَل عربيّ يُضرب، كما ينقل (القالي، في أماليه): "للرجل تكلّفه الثقل ثم تزيده على ذلك. قال أبو علي: الإبّالة: الحزمة من الحَطَب، والضِّغْث: القَبضة من الحشيش." ويمكن القول، بما هو دارج على الألسنة اليوم: إن التصويت (يزيد الطين بلّة). وكأنه لم يكفنا نشر العامّيّة وبثّها، وتدوين مستدركات ما انقرض منها، والتنظير لجماليّاتها، والتأصيل، والتأريخ، والتوطيد لكنوزها، المهوّل من أهمّيّتها، والسعي لتقعيد بنياتها، بل ربما إدخال بعضها في المناهج المدرسيّة، بعد مناهجنا الإعلاميّة والثقافيّة، المعلنة منها والخفيّة، بما في ذلك كلّه من انتهاكٍ لقيمٍ لغويّة وثقافية وذهنيّة، كانت مرعيّة من قبل، بوصفها خطوطًا حمراء لا يجوز تخطّيها.. لا، لم يكف هذا المسلسل (المكسيكي) العامّي منذ عرف العرب الإعلام، بل جُعلت لذلك أيضًا آليات من التحشّد والترصّد، والمكايدات القَبَليّة والقُطريّة. بمعنى آخر: جُعلت تلك المسابقات والمهرجانات ساحات مهارشات قَبَليّة، حيّة السوق للشاري والمتفرّج. لكي يعيش المواطن العربي - البئيس على كلّ المستويات - أجواء العامّيّة الموروثة الحقّة، وحميّة التعصّب الفئوي والعشائري والقَبَلي والمناطقي والإقليمي والقُطري، بشكلٍ تفاعليّ مؤثّر، ولكي يُلهي بني تغلب عن كل مكرمة - تُرجى ولو في الخيال - وعن كلّ أملٍ في غدٍ مختلف جديد، قصيدةٌ قالها عمرو بن كلثوم.
وملاهي الإعلام اليوم ليست شِعريّة فحسب، بطبيعة الأحوال، ولكنها من كل شكلٍ ولون، وإنما جاءت ملاهي الشِّعر عودةً عظمى إلى ذلك الجذر العتيق الفتّاك بالعرب من الملاهي. وإلاّ فديدن إعلامنا هو: مَن لم يمت بتلهيةٍ مات بغيرها؛ فمَن لم تُلهه الرياضة وكرة القدم، فليُلهه الفنّ والطرب، وبرامجهما، ك(استار أكاديمي) ونحوه، ومن لم يُلهه هذا، فلتُلهه قنوات الأفلام العربيّة، ومَن لم يكن من محبّي الأفلام العربيّة، فلتُفتح له قنوات أفلامٍ أجنبيّة متنوّعة، تُنتخب انتخابًا لتثير بواطن الحرمان لديه، كي تَملأ فراغه بكل مغرياتها وحمولاتها التي تفغر لها أفواه من ضاقت بهم الحدود والقيود وامتلؤوا انبهارًا بكلّ أجنبيّ، ومَن كان لا يعشق هذا أو ذاك، واستعصى على الترويض، أو كان محافظًا، متحفّظًا على ما في تلك الفضاءات من محاذير، فحتمًا أن لكلّ عربيّ من الشِّعر نصيبًا، فلتكن إذن قنوات شِعريّة، تبثّ على مدار اليوم والسنة والعُمر. أمّا من أعيت معه كلّ الوسائل الشرقيّة والغربيّة، الجسديّة والروحيّة، المحليّة والمستوردة، فلا مناص من التماس دواء جديد لحالته! تُرى، كيف وهو مُعرض عن كلّ المغريات الديويّة؟ وليس من هؤلاء الذين عقولهم في أعينهم، أو في قلوبهم، أو في أرجلهم؟ الأمر سهل، فما علينا إلاّ تدشين قنوات دينيّة، ذات أناشيد شجيّة مستحدثة، تجمع كل المكوّنات السابقة، موسيقيّة، وشِعريّة، وحماسيّة، وإبهاريّة، ولكن بطريقة يتقبّلها ذلك الخارج عن قاطرات القُطعان السابقة، لكي تُدغدغ الأرواح الروحانيّة الطاهرة، فتستفزّ شحناتها النفسيّة المكبوتة، فما يلبث حاملها أن يستفرغها وينام قرير العين، ليصحو على أنشودة أخرى.. وهكذا، في دوائر من العطالة والبطالة والتخدير.
يأتي ذلك كلّه في هذا العالم الذي تُطلَق فيه الصواريخ الفضائيّة، حتى من قِبل شعوبٍ ننظر إليها - بنعرتنا العنصريّة وجهالتنا المعهودة - على أنها مثال التخلّف؛ ليس إلاّ لأن الفقر قد ألجأ بعض مواطنيها أن يكونوا ضمن عمالاتنا في الشوراع أو المنازل. ويأتي ذلك كلّه في زمن تغزو الفضاء المركبات الاستكشافيّة شرقًا وغربًا، شمالاً وجنوبًا، وجحافلنا - نحن العربان - سادرة أمام الشاشات، في فضاءٍ لا أوّل له ولا آخر، مبدئين معيدين في ملاهينا تلك، وأكثرها عراقة - بلا ريب - ملهاتنا الأزليّة الأبديّة، قصائد عمرو بن كلثومنا، نرويها أبدًا مُذْ كان أوّلنا، (يا للرجالِ لشِعرٍ غيرِ مسؤومِ)!
ذلك مبلغ الهمّة العربيّة اليوم من العِلم والطموح والمستقبل: قصيدة نبطيّة أو غير نبطيّة قالها فلان! كما تأتي كلّ تلك الإبداعات الهُلاميّة والابتكارات الكلاميّة، وعدونا المتربّص الغبي، جار جوارنا الغصب (إسرائيل)، يكحّل أعيننا كلّ يوم بابتكارٍ دمويّ؛ لأنه لم يهتد، لفرط غفلته، إلى ما اهتدت إليه فطنة العربان - المشهورين بحكمتهم وحِلمهم وبُعد نظرهم - من قنوات الرياضة، والغناء، والأفلام، والشِّعر الشعبي، والأناشيد الدينيّة المفتّتة للقلوب والأكباد! يا له من متخلّفٍ عن الرَّكْب ذلك الجار الحمار، المحدق بنا تاريخًا المحدقين به جغرافيا!
وعودًا على بدء، يمكن القول: إن آليات المسابقات في (شِعرنا غير المسؤوم)، والمعتمدة على التصويت، ما هي إلاّ استكمال لما قد ينقص في سوءات ذلك الشِّعر وتلك المسابقات، أو المسالقات. أمرٌ ظاهره جميل، وشعاره قد يبدو حقًّا، لكن باطنه جمال في غير محلّه، وداخله حقّ يؤدّي إلى باطل وظُلم. لأن التصويت في شأنٍ تَحكُمه موضوعيّة الدوافع - وإن بدرجةٍ غالبة، كالتصويت في مجال الانتخاب السياسي - يختلف نوعيًّا عن التصويت في شأنٍ تَحكُمه العواطف المحضة، والميول الذاتية، والنوازع الشخصيّة، والتحيّزات الاجتماعيّة، والمنافسات العبثيّة. فإذا كان هدف النوع الأوّل من الممارسة الديمقراطيّة إقامة الحريّة والعدالة بين الناس، فإن النوع الآخر، (بشكله الهواويّ الفوضويّ في تلك المسابقات)، يفتح باب التظالم على مصراعيه، كما يعزّز عقليّة الغَلَبة بالكثرة لا بالنوعيّة، ويرسّخ القيمة العربيّة الجاهليّة من نُصرة القريب وإقصاء الغريب، على أساس العِرق والنَّسَب والانتماء، لا على أساس العطاء والتأهيل والجدارة في الأداء.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
عضو مجلس الشورى
aalfaify@yahoo.com
http:alfaify.cjb.net