قبل أن أفتح الأوراق، وأقول هاؤم اقرؤوا كتابيا، اسمحوا لي أن نتشارك بطاقة أود أن أبعثها لمصر. ...مصر المحروسة
لطالما تسألت؟ لماذا محروسة؟ أو مما محروسة؟ كنت أشعر في السابق أن هذا الوصف هو فقط أحد آليات الدفاع العسكري النفسي وتلويح بالشعار المتحدي للغزاة.
على حين أن كتاب مصر التاريخي يخبرنا بأن أرض مصر أو هبة النيل، كانت موطئا لسنابك خيول الغزاة على امتداد تاريخها، ذلك السهل المنسدل بعذوبة ودعة بجانب النيل، كان مغوياً لجميع الطامعين بالثروة المخصبة بروح النيل، فكيف ولمَ هي محروسة؟
ولكننا لن نحتاج طويلا من الوقت لنكتشف لِمَ مصر محروسة؟ ولما لم يستطع أي من الغزاة النهمين الذين اقتحموا هذا المكان الفوز بمفتاح النيل؟ أو تفاصيل المكان, بل ظل مخبأ في كفن الفرعون، وبقيت مصر هبة النيل محروسة.
مصر تمنح المنتصرين بعضاً من وجهها الندي البشوش الذي يستقبل الغرباء بكل اللطف الرطب المنساب بخصائص السهل الذي يضمد النيل جراحه ويوضئها منذ الأزل، وتشرع البوابات الأمامية وتصدح: البيت بيتك، لكن روح مصر تبقى محروسة تبقى بمنأى عن بيارق الغزاة وخيام الجيوش، يبقى ذلك الإناء المقدس مختفياً في عمق قبر غامض عصي على الغزاة.
تراقص مصر الغزاة وتهيئ لهم متكأ وتشغلهم بمهرجان الكلام، الازدحام اللغوي الهائل الذي يحاصر الزوار في كل مكان في شوارعها، النمارق والبيارق المنسوجة بخيوط المفردات، ومصر التي ظنها الغزاة أنها باتت سهلاً يسيراً متاحاً لمن غلب، ولكنها تمتلك تلك المورثة الجينية النادرة، التي تجعل الروح المصرية قادرة على حفظ نقاء السلالة عبر توالي الأزمنة والجيوش, واختلاف الأمكنة وتبدل الخرائط.
مصر المحروسة تلتهم كل من يخطو فوق أرضها وتغمره بعجيتها السحرية الباذخة، ولكنها تبقى محتفظة بأسرارها الموروثة دون الغزاة... وأي قبيلة ستصل إلى مصر سيلتهمها صلصال المكان ستصبح جزءا من فسيفساء مصر بعد الجيل الثاني فقط.
وأمام هذا ندهش ونتسآل:- لِمَا يبقى المصريون بخريطة نفسية واحدة وخاصة بهم؟ لِمَ لم يستطع غزاة العصر الحديث أن يستولوا على ألسنتهم أو لغتهم، كما في شمال إفريقيا، وبعض أجزاء بلاد الشام؟
ببساطة لأنه حينما يظن الجيش أنه قد أحكم تطويقه لذلك السهل العجائبي الذي يجاور النيل، تكون مياه النيل من ناحية أخرى قد أدخلت الغزاة في غيبوبة دائمة، لتبقى مصر المحروسة، وروحها المميزة والخاصة والعصية عن التطويع والتطبيع... والتدجين.... فصباح مطرز بهيبة التاريخ يا مصر المحروسة.
غواية الرواية
الرواية هي ابنة المدينة، وهي كما يقولون خرجت من مصانع البرجوازية,... فالمدينة الحديثة تمتلك من علاقات المعرفة وأدواتها ما يبيح لها تجاوز مواقعها القديمة، سواء من ناحية تطوير لأدوات الإنتاج الأساسية في المجتمع، أو الوعي المعرفي الذي يتمرد على طرائقها المعتادة في الإدراك
فكثير من النقاد يربطون بين ظهور الرواية وانتشار التعليم والطبقة الوسطى والمطابع.
عموما كان وصولها للعالم العربي عبر البوابة المصرية سواء من خلال الترجمة عن الفرنسية أو الإنجليزية أو مطالع الأعمال الروائية في مصر.
وتفاوتت ردود الفعل اتجاه ظهورها الغريب والطارئ آنذاك على البنيان الأدبي والفني في العالم العربي ما بين بعض النقاد الذين حاولوا التأصيل لها وربطها ببعض الأشكال الأدبية الموجودة في التراث العربي من مقامة، ورسالة، سير، وحكايات ألف ليلة وليلة.
أو مواجهة مستريبة رافضة تتبدى في موقف الأديب العقاد عندما اسماها بفن الرعاع والعامة، لا سيما أنها استنبتت في أرض أمة شاعرة نسجت خيمة تاريخها من أبيات القصائد وعيون الشعر.
مطالع تاريخ الرواية المحلية:
وعلى مستوى الحصر التاريخي نجد أن الرواية الأولى التي ظهرت في السعودية كانت للأديب عبدالقدوس الأنصاري تحت عنوان التوأمان عام 1930، ويذكر د. منصور الحازمي في هذا المجال بأن الروايات في تلك الفترة كانت قليلة مع تواضع في المستوى الفني، ولم يكن كتاب تلك الفترة يكتبون بهدف المتعة الفنية بقدر ما كانوا يهدفون إلى غايات تربوية، ففي رواية التوأمان يكتب المؤلف تحت العنوان (رواية أدبية علمية اجتماعية).
لذا فأن أن أول رواية فنية ظهرت في السعودية هي رواية (ثمن التضحية) لحامد دمنهوري عام 1959، وكانت تتميز بالأسلوب الواقعي الذي يعكس الواقع مع العديد من التفاصيل، لكنه من ناحية أخرى يحاول أن يتمرد عليه في بعض المواضع من خلال شخصية بطل طموح خارج عن محيطه، تتزامن هذه الرواية مع رواية إبراهيم الناصر (ثقب في رداء الليل) التي صورت البيئة واهتمت ببناء الشخصيات، ورصدت الصراع والتوتر في العلاقات الإنسانية. المفارقة في هذه الروايات أن المرأة ظهرت من خلال شخصية الزوجة الجاهلة المحدودة الوعي، مع تفاوت كبير في المدارك والأحاسيس التي تربطها بزوجها، وعلها هذه المرأة أو لربما حفيدتها هي التي ثارت لاحقا على مصيرها الروائي المهمش، فانهمرت الروايات في السعودية التي تكتبها نساء يحاولن أن يحررن أرض السرد والكلام من استعمار الذكور التاريخي لها.
لتصبح أشهر الروايات التي تحتل الواجهة الأدبية في السعودية تكتب بيد امرأة، يقول الناقد عبدالله الغذامي في كتابه حكاية الحداثة (الخطاب النسائي عندنا صار في غالبه خطابا في الحداثة الاجتماعية والتربوية والأدبية حيث تميزت الكتابة النسائية بمجازها الخاص كل هذا كشف عن أقنعة التاريخ والنسق المستفحل وكشف عن قاعدة عميقة للتحول والتحضر بلغة أمومية وحس رحمي، وهذا من أهم مظاهر التحديث الاجتماعي في السعودية).
وقد ظهرت أول رواية نسائية سعودية على يد سميرة خاشقجي، وإن كان بعض من النقاد يجد أن رواية سميرة منقطعة عن البيئة في السعودية، فالمؤلفة كانت ترحل شخصياتها إلى الشام وأوروبا كي تتيح لهم مساحة أكبر من التحرك، على ما في هذا من إخلال بشروط البيئة الزمانية والمكانية.
رياح التغيير1971-2001
رياح التغيير حينما تهب فهي قوية عاتية لا تبقي على حال, وكما تمردت الرواية في أوربا على الكلاسيكية والواقعية ظهرت الرواية الجديدة على يد ألن روب جرييه الذي يقول بدوره (إن الرواية هي بحث عن واقع لن يوجد إلا بعد الانتهاء من الكتابة) وظهرت الرواية الغرائبية لدى جيمس جويس وبروست وكافكا، فأن رياح التغيير وصلت تخوم جزيرة العرب.
فظهرت الرواية الجديدة على يد غازي القصيبي ورجاء عالم وعبد العزيز المشري وتركي الحمد ويذكر الناقد معجب الزهراني في هذه الفترة، أن الرواية أصبحت أكثر جرأة وتحديا للواقع في كشف المستور ويؤكد أن روايات غازي القصيبي وتركي الحمد وعلي الدميني تكشف المستور على مستوى الخطاب السياسي، وروايات عبده خال وليلى الجهني ويوسف المحيميد تكشفه على مستوى الخطاب الاجتماعي، إما روايات رجاء عالم فتقوم بكشفه على مستوى المخزون الثقافي والأسطورة).
السنة المنعطف:
لكن السنة المنعطف بالنسبة للرواية السعودية عام 2006، فقد طرحت تلك السنة ما يفوق على الخمسين راوية، حتى أن البعض اسماه بعام تسانومي الرواية السعودية، وهو عدد كبير مقارنة بعدد الروايات التي صدرت طوال سنى البدايات والتجديد.
ولعل هذه الظاهرة تشير بشكل أو آخر إلى أن هناك حراك اجتماعي محتدم ومطرد، ورغبة عارمة لدى الأجيال الشابة لامتشاق القلم والتعبير عن جيل يكابد طريقه بداخل مدينة متحفظة وقورة.
وكانت رواية (بنات الرياض) للسعودية رجاء الصانع التي لامست الكثير من المناطق المحذورة والمسكوت عنها في المدينة، وجميع الجيشان الشعبي والاجتماعي ضدها أو معها والأضواء التي برقت حولها، خلق رغبة عارمة لدى الكثير لمعابثة الأقفال، ومخاتلة حراس الغرف القصية.
وسأحاول فيما يلي أن أقدم ما اسميه (بشهادة سردية ) عن تجربتي الخاصة في كتابة الرواية، فلعلنا نصل من خلال الخاص إلى العام، ومن خلال العام نتقصى ملامح الخاص في الرواية السعودية.
***
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«6287» ثم أرسلها إلى الكود 82244
يتبع
ألقيت الورقة في المهرجان الثقافي السعودي الذي نظمته وزارة التعليم العالي في مصر.
الرياض