قال لي أحد الأدباء بصوت متهدج مملوء بالسخط والنزق: كلّ حبّ له دواء ما عدا حبّ الكلمات، فعاشقها محكوم عليه بأن يظلّ عبداً لها حتّى الموت.
قلت: من الأريح لك أن تحبّ القضايا المصيرية كالتفرج على أغاني نانسي عجرم وروبي والمسلسلات التركية ومباريات كرة القدم.
قال: ما هذه المهنة المشؤومة التي اخترتها واختارتني؟ كلّ المهن لها بداية ونهاية ما عدا مهنة الكتابة.
قلت: لا تنسَ أنّ مهنة الكتابة لها أحياناً بدايات جليلة ونهايات خسيسة.
قال: مسكين الأديب، فهو ما إن يمسك القلم حتّى يلتصق به ولا تتخلَّ عنه أصابعه إلاّ عند الموت.
قلت: وهل تلوم الأديب إذا ترك القلم بعد موته؟ قال: أعرف أدباء ظلّوا يكتبون طوال أعوام من غير أن ينتبهوا إلى أنّهم قد ماتوا، وكلّ من تبرع بإخبارهم بتلك الحقيقة السارة المؤسفة تعرّض للاتهام بأنه من المغرضين الحاقدين الماكرين الحاسدين كارهي الإبداع والمواهب الحقة، وتعرّض أيضاً للمتاعب لأن الميت يؤازر الميت في الحرب المعلنة على كل أديب ذي نتاج أصيل حي مؤثر في الناس.
قلت: ما تحكيه لا يخلو من تناقض وتشويش، فالكتابة هي صفة من صفات الحياة والأحياء، فكيف يستطيع الأديب الميت أن يكتب ما دام قد مات؟!
قال: هناك أدباء هم أحياء في رأي أمهاتهم وزوجاتهم، ولكنهم في رأي القراء ليسوا سوى جثث، وما يكتبونه هو أفضل برهان على أنهم موتى، فالأديب الذي يكتب من دون أن يضيف جديداً مكتفياً بتقليد ما سبق أن كتبه الآباء والأجداد هو ميت وبقايا جثة.
قلت: كأنك تنويّ أن تقول لي إنك ستؤلف دليلاً إلى الأدباء الأحياء والأدباء الأموات يبين أوجه الاختلاف بينهما.
قال: أتظن أنّ كلامي مجرد مزاح؟ نحن فعلاً في أشدّ الحاجة إلى مثل هذا الدليل شرط ألاّ يقتصر على الأدباء فقط، فالموتى لا ينشطون في مجال الأدب فقط، فهم موجودون في كلّ مجال، ويحتاجون إلى حفاري قبور أقوياء بارعين في مهنتهم لا يتهربون من تخليص الأحياء من تلك الجثث التي تأبى الانسحاب إلى القبور، وتصرّ على التحكم بالأحياء.
قلت: ولماذا لا تبادر إلى هجر القلم والعمل في الدفن؟ قال: لا تنس أن الأيدي التي تجيد استخدام القلم لا تجيد استخدام الرفش والمعول.
قلت: اللهم نجنا من شرّ الجثث المتحركة!
جدة