لا يمكن لمثلي أن يبادر بالتصادم مع السادة المصححين (اللغويين) في الصحف، متنكراً لأفضالهم عليه في صقل أدواته الكتابية منذ البدايات.. فأنا لستُ من دارسي اللغة في الجامعات، كما أنني لستُ ممن تتلمذوا على (مشايخ) اللغة.. ولكني نشأتُ ونموتُ في أحضان الصحف والمجلات الثقافية، وهذه (الجزيرة الثقافية) هي كبرى حاضناتي منذ أكثر من عقدين يمثلان نصف عمري..
غير أنني، منذ زمن ليس قصيراً، أصبحتُ أزعم أنني قد شببتُ عن الطوق وضربتُ صحبةً مع اللغة ميثاقها ألا يخذل أحدُنا الآخَر..
ولكنّ زعمي، ربما، لم يصل إلى مصححنا اللغويّ في (جزيرتنا الثقافية) أو ربما هو لم يقتنع به - وأنا لا أعرفه شخصياً، للأسف- فبعد مرحلة التسعينيات، التي شهدت تواجدي بشكل مكثف على صفحات هذه (الجزيرة)، وكان المصحح يقوم بدور هام لأننا كنا نكتب بخط اليد، وثمة من (يرقن) كتاباتنا على (الكمبيوتر) بصورة سريعة تتطلب مراجعة المصحح وتصويب الأخطاء الكثيرة عادةً..
أقول: بعد تلك المرحلة (الثرية جداً) انقطعتُ عن (الجزيرة) لبضع سنين (من مطلع الألفية إلى 2007 تقريباً) ثم عدتُ -كما عاد غيري- متسلحاً بأداة العصر (الكمبيوتر) الذي أغنانا عن إحصاء الأخطاء (المطبعية) في مقالاتنا!
فقد أصبح الكاتبُ يرسل مقالته (أو قصيدته) -بالإيميل- لتظهر منشورة كما هي، بالتشكيل نفسه وعلامات الترقيم نفسها، وليس للجريدة من دور سوى (الإخراج الفني) المثير للإعجاب دائماً..
فلماذا، يا عزيزي المصحح، تستكثر علينا هذه النعمة، وتفسد علينا بعضاً من هذه المتعة بتدخلاتك (المتعمدة) التي -أحياناً- تحوّل الصحيح إلى خطأ؟
سأبدأ من مقالي الأخير، المنشور في عدد الثقافية (270) وعنوانه (فاحتفل بالحزن وحدك) فقد استشهدتُ في المقال بأبيات لمعن بن أوس جاء فيها:
(فلما استدّ ساعده رماني) ووالله كنتُ أتوقع تدخلاً من المصحح، لأنّ البيت اشتهر بخطأ يعد أحد أشهر (الأخطاء الشائعة) لهذا حاولتُ أن (أغمّي) على عين المصحح بالتشكيل المكثف، فوضعتُ السكون فوق السين والفتحة فوق التاء وأخرى فوق شدّة الدال، كل ذلك من أجل (التمويه) حتى أتفادى (تدخّلات) المصحح.. ولكنّ ذلك كله لم ينفع، ف(اصطاد) المصحح الكلمة (استد) بالسين، وعمد إلى جعلها (اشتد) بالشين، ولم يدرك أن تحويل السين إلى شين هو الخطأ!
سأترك ل(لسان العرب) إيضاح ذلك، ففي مادة (سدد) يقول ابن منظور:
(يقال: سدَّ السهمُ يَسِدُّ إذا استقام. وسدَّدْته تسديداً. واستَدَّ الشيءُ إذا استقام؛ وقال:
أعلّمهُ الرِّمايةَ كلّ يومٍ
فلما استدَّ ساعدهُ رماني
قال الأصمعي: اشتد، بالشين المعجمة، ليس بشيء)!
وبشيء آخر من الغيظ المكبوت، سأعاتب مصححنا العزيز على تدخلات أخرى سابقة (راجياً أن يتسع صدره) ففي مقال لي في العدد 225 بتاريخ 3/12/2007 عنوانه (هوامش على فاتورة الكتاب الأخير) قلتُ في جملةٍ كسؤال:
(أوَ لم تصدر لك كتبٌ..) فما كان من المصحح إلا أن جعلها (كتباً) ولا أدري لماذا، وكيف قرأها فظنها خطأ؟! فمحا الشكل الصحيح ووضع مكانه الخطأ، والحقّ أنّ لا أحد سيدرك أن الخطأ جاء من (المصحح) وليس مني!
كذلك في مقال (صدمة في الجناح) بتاريخ 22-12-2008 كنتُ أتحدث عن (مئة كتاب) فحورها المصحح إلى (مائة) وسأشير هنا إلى نقاش دار (على صفحات (الجزيرة) الثقافية) -لا أذكر التاريخ- حول صحة كتابة الرقم (100) فكانت آراء عدد من اللغويين المتمكنين تؤكد أنها (مئة) على وزن (فئة) بينما يصرّ مصححنا العزيز على التدخل لجعلها (مائة)!
أنا معجبٌ حقاً بنشاط الأستاذ المصحح، وكنتُ سأكون أشدّ إعجاباً لو أنه ينتبه إلى (الأخطاء) الحقيقية التي (سها) عنها كتّابها، ولكنه -للأسف- لا يفعل!
لن أتطرّق إلى الأخطاء (الكثيرة أحياناً) في مقالات الثقافية، بل سأكتفي بمراجعة ما يخصّني فقط.. ففي قصيدة لي عنوانها (أنفاس قصيرة فاترة) نشرت هنا بتاريخ 10-11-2008 قلتُ:
(حاولْ ملامسةَ الأكفِّ) ولكن، سقط سهواً حرف ميم فجاءت الكلمة (ملاسة) وكم تمنيت لو أن المصحح العزيز انتبه لها وصوّبها، ولكنه -للأسف- لم يفعل!
فماذا أقول بعد؟ لا شيء إلا رجائي أن يكون كلامي خفيفاً، ولن أسترسل حتى لا يلوّح لي المصحح ببيت بن أوس (فلما استدّ ساعده رماني)!
إنما سأكتفي بترديد قول رسولنا الكريم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) رواه أبو داود والترمذي. فيا عزيزي المصحح: ارحمني!
***
تعليق من التصحيح:
الكاتب الكريم فيصل أكرم: للأسف، علمت شيئاً وغابت عنك أشياء.. الكلمة وردت في الشعر العربي بالصيغتين (استدَّ) و (اشتدَّ)، وهذا البيت روي عن أكثر من شاعر، قال بعضهم (استدَّ) والبعض الآخر قال (اشتدَّ).. وعليك أن (تشتدَّ) في البحث والمطالعة.. ومن ثمَّ ترحمنا إن أمكن.